Beirut
16°
|
Coming
Soon
Coming
Soon
بلديات
الرئيسية
الأخبار المهمة
رادار
بحث وتحري
المحلية
اقليمي ودولي
أمن وقضاء
رياضة
صناعة الوطن
مسيحيّو الشرق ويهوذا الإسخريوطي!
روني الفا
|
المصدر:
ليبانون ديبايت
|
الاثنين
30
كانون الثاني
2017
-
8:29
ليبانون ديبايت - روني الفا
في هذا الشرق الحزين تعلّمنا " من نحن"، لا لغايَةٍ في نفسِ هِلالٍ خَصيب ولا لأُخرى في نَفسِ يَعقوب أو يَعاقِبَة!
تعلّمنا أن المسيحيّة وإن كانَت كَونيَّةَ المَرامي، فهي لَم تنفكّ يَوماً من أن تَكون مأزومَة الجغرافية.
نحنُ المسيحيين في هذا الشرقِ المدَعّش، لا نشكِّلُ مصدَرَ اهتمامٍ لأحدٍ في الغَرب. كنّا فقط قوتاً فِكريّاً "فاست فود" للمستشرقين الذين ارادوا أن يتفحّصونا وكأننا جنس على طريق الإنقراض أو كبقايا آثار في متحَف تآكلته الأحقاد حتّى النخاع الشّوكي.
اعتمَرَ الغَرب قبّعَةَ الفرديَّةِ مُمَجِّداً قدرَةَ الفَرد على اجتِراحِ قَدَرِه الخاصّ، وسطَ احتِفاليَّةٍ متقَوقِعَة خلَقَت مواطِنين أشبَه بملايين الجَزائِر التي تَفصلُ بَينَها هِضابٌ من الوِحدَة ومحيطات من العزلَة بلا قَرار ولا قَعر.
في الشرق أمعَنّا نحنُ المسيحيين في اجتراحِ ثَقافَة ال " نحن"، لأن الإيمان المسيحي بِجَبلَتِه إيمان جَماعَة، وحبُّ جَماعَة وخَلاصُ جَماعَة!
عِشنا كلّ المَخاض العَقائِدي منذُ أن شَنَقَ الإسخَريوطي خيانَتهُ. وبالرّغم من أننا بقينا أسرَى الثلاثين من الفضّة، لَم نتسوّق إيماننا بالسّلعة المنتقاة، بل أخذناه بكليّتِه، بكلّ سنينِه الطقسيّة وشَظَفِ عاداتِه.
المسيحيَّةُ كَوّنَت لَنا في الشّرقِ شعوباً لا أفراداً، ثقافَةً لا مَعلومات وذاكِرةً جَماعيّة لا ذكريات مَعزولة في التاريخ والجغرافية.
أنقَذتنا الدوغما المسيحيّة من سَذاجَة فلسفة الإغريق، ومن تمعّنَ مِنا وأمعَنَ في المحبّة، صافَحَ الآخَر حتّى الثمالَة، حتّى الإرتِشاف الأخير لِنَبيذ القيامَة.
نحن المسيحيين في الشرق لَم نبحث يَوماً عن إصلاح دِيانَتِنا،ولكن بَحَثنا عن إصلاح أنفسِنا لِنَليقَ بِديانَتِنا، وفي الشرق الحَزين، لا خيار لدَينا سِوى أن نزاوِلَ التجربَة الشعبية المشتَرَكة لِشعبٍ يتقاسم أفرادُهُ تصوّراً رَمزياً واحِداً للعالَم ولِما بعد العالَم.
نحن المسيحيين في الشرق الحَزين، مَسكونون بالنّدوب، جَعَلناها عناوينَ إقامَتنا، ونَشعرُ عَبرَ ما ينُزّ من جراحِنا المفتوحَة أننا في أرضٍ لَنا، وبيتٍ لَنا ووطَنٍ لَنا!
كلّ مَن حاولَ أن يَقرأنا بِصيغَةِ الذوبان ذاب، وكلّ من حاولَ أن يصمّم ازياءَنا على قِياس التشابه او التشابك قَصَّهُ مِقَصَّه لأننا تاريخٌ مُجاوِرٌ ومُحاوِرٌ وآخَر. آخَر دون أن يكونَ اختِلافاً أو خِلافاً.
مأزومون نحنُ مَع الشريك ومنه في الشرق الحَزين، مأزومونَ مَع الغَربِ ومِنهُ، هوَ يَعرِفُ ان المسيحيَّةَ ديانَةً شَرقيّةً في نُخاعِها الشّوكي، لكنّه لا يريدُ لِربوبيَّةٍ في أناه أن يُشيِّدَ خَيالَهُ الجَماعي وَضَميرَهُ الجَماعي على شرقيّتِنا.
الغَربُ عزَفَ على نَشازنا، وهوَ في ذلكَ خاطئٌ ومُخطِئ. ارتَدى لِباسَ المنقِذ قبلَ أن يَنتَدِبَ طهرَنا السياسي ثمّ يتركَنا بعد ذلك للفوضى التي نثَرَها في دساتيرنا الغضّة.
الغربُ وشَمنا بالطوباويّة ولَم يَتوانَ عَن خلق طوباويّةٍ على شَكلِ إتّحادٍ أوروبي مَشدودٍ وَمشدوهٍ صَوبَ مستَقبَلٍ هَشّ.
الإتحاد الأوروبي مَولود غير مَخلوق، إرهاص سياسي في مَدى اقتِصادي بدأ مُهَندِسوه يَشعرونَ بذنبٍ إستراتيجي.
ولأن أوروبا تشعرُ بالذنب، لَن يكون بِمَقدورِها حِمايَة مسيحيي الشّرق. نحنُ بالنسبَةِ للغَرب مَخلوقات هَجينة، أو في أفضَل الأحوال أورام غربيَّة المنشأ على تَماس مَع قَيح إستِعماري!
نحن بالنسبَة للغرب شعوب غَريبَة، غير مَفهومَة، ملطّخَة قليلاً، وأوروبا تحبُّ العذريَّة السياسيّة والإقتصاد النظيف والمال النظيف وحقوق الإنسان النظيف، ولذلك تتوجّس من المسيحيين في هذا الشرق الحَزين.
أزمَتنا الكبرى أننا ضَحايا ثَقافة إنقاذ المسيحيين التي تَعتَري مفردات الغرب . الغرب يريدُ إنقاذَنا من المسلِمين، لا بأس ان نقول ذلك وسطَ إعتراض البعض . نحنَ أسرَى حروب عنصريّة بين الغرب والإسلام.
من يُجاهِر بِخطاب مَسيحي مشرِقيٍ بَكّاءٍ على دَورنا الطليعي إنما يؤذينا، لأنه يخلق ُ حَربَ هوّيات وهذا ما يُغبِطُ ما يُسَمّى بالدولَةِ الإسلاميَّةِ، ويغذّي ثقافَةَ وجودِها.
مَسيحيّو الشرقِ الحَزين،خلافاً لِمَلهاةِ الخِلافَة الشكسبيريّة، وخلافاً للصليبيّة النِيو كولونيانيّة، هم أرقَى وأبهى وأكثَر الرّسل إتّزاناً وعمقاً وتَرشيحاً للحِوارِ مَع الإسلام ولانتزاعِ فَتيل ديناميت إنفجار الحَضارات في العالَم.
في أوائِل القرنِ العِشرين، رسّخنا إسهاَمنا الفِكري عندَما نَحَونا صَوبَ القوميّة العربيّة ...أتذكرونَها؟
كانَت سِرجَنا وَسِراجَنا لِنطالِبَ بهويّةٍ ثَقافيَّةٍ مشتَرَكَة لكلّ شعوب العالَم العَرَبي خارِجَ الهويّات الدينيّة. أردناها هويّةً جامِعةً تَذوبُ في أتونِها الرائِع المذهبيات والطائفيات، وتؤسس لِمُواطَنَةٍ حديثَة ولِديمقراطيّةِ حَداثَة!
خِسِرنا الرّهان عندَما "تأسرَلنا" وتَصهَيَنّا، وكانَ ذلكَ أيضاً في منتَصَفِ القرنِ الماضي. أعطَينا بِذلكَ القوميّةَ الإسلاميّةَ شرعَتَها وشَرعِيّتَها.
لم يستَطِع المسلِم في هذا الشرقِ الحَزين أن يَزيحَ عَن خَوفِه المبَرَّر أننا " تأسرَلنا" في خدمَةِ إستِعمارٍ غَربي، وخسِرنا بِذلك، خصوصاً نحنُ اللبنانيون أنفُسَنا ومَع أنفُسِنا، خَسِرنا الحربَ أيضاً.
أنا مغتبِطٌ اليَوم لأن العَديَد من أولئِكَ الذينَ " تأسرَلوا" عادوا تائِبينَ إلى العالَم الأرحَب، عالَم العروبَة، عالم الإبداع الثقافي.
المسيحيونَ في الشرقِ الحَزين، خصوصاً اللبنانيونَ منهُم، بدأوا يتدثّرونَ بِضميرٍ جَماعي جديد، مندَمِج بِلا انحناءٍ للعالم المشرِقي وبِلا انصِياعٍ لطوباويِّةِ الغَرب.
لقد مرّت منطقتُنا بِتسونامي، والعَديد من المسيحيين في قِيادَة الجَماعَة غَفَلَ عَن أمواجِهِ العاتيَة.
إيران أصبَحَت جمهوريّةً إسلاميّةً عام 1979، بريجنيف أصبَحَ وَحشاً عقائِديّاً ضَروس حارَبَه جنودُ "الله" في أفغانِستان، يوحنّا بولس الثاني هَزَمَ بإشارَةِ الصّليب أوروبا الشرقية القديمَة بكل مارِشالاتِها، رونالد ريغان دَخَلَ منتصَراً إلى البيت الأبيَض بأصواتِ الإنجيليين، الشيعَة والسنّة تَقاتَلوا على الكَعبَةِ المقدّسة، اليهود المتطرّفون دَخَلوا فاتِحينَ إلى الكنيسِت الإسرائيلي، غزّة تَسربَلَت بالفِكرِ الإسلامي وبأحلامِ فلسطين.
كلّ هذا حدَث في سبعينيات القرن الماضي، كلّ هذا غيّرَ وجه "الله" في السياسَة وتغيّرَ معهُ وجهُ المسيحيين أيضاً في هذا الشرقِ الحَزين.
اليَوم عدنا إلى لعبَةِ الإستيعاب: إيران والولايات المتحدة تَصالَحتا ولَو على زَغَل بِحضور أوروبي أشبَه بِكومبارس، والمسيحيون اليوم يستَطيعونَ برغم هشاشَةِ هذه المعادَلَة أن يَعتَمِدوا ولَو بِحَذرٍ على هذه الجبهَة الجديدة ضد داعِش!
لن ينقرضَ المسيحيون في هذا الشرقِ الحَزين لأنَّ انقراضَهُم انقراضُ "الآخَر". الآخَر الذي يأتينا بِطَحينِ الحِوار وخمرِ التنوّع.
وقضيّةُ مَسيحيي الشرق ليسَت قضيّتُهُم وحدُهُم، إنّها قضيّةٌ كَونيّةٌ، وبإنقاذهِم يُنقِذُ العالَم نفسَهُ وضَميرَهُ.
مأساةُ المسيحيينَ في هذا الشرقِ الحَزين مأساة مشترَكَة، لأن إندثَارَهُم لا سَمَحَ الله هوَ إندِثارٌ لِذاكِرَةِ الإنسانيّة وللرجاء الوَحيد المتبقّي من اجلِ إنضاجِ وإنجاحِ حِوارِ الحضارات بينَ الشرقِ والشرق وبين الشرق والغَرب، وأي مأساة تصيب مسيحيي الشّرق سَتكونُ بِمثابَة إنتِحار سِتّة مِليارات يهوّذا الإسخَريوطي في هذا العالَم.
تابعوا آخر أخبار "ليبانون ديبايت" عبر Google News،
اضغط هنا