الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فعَلها مجدّداً وفاجَأ الجميع. وفي حين كان لقرار العملية العسكرية الروسية في سوريا في نهاية أيلول الماضي وقعُ الصاعقة، جاءَ اليومَ كلامُه بسحب الجزء الرئيسي من القوات العسكرية الروسية من سوريا على إيقاع مفاوضات جنيف 3» بَرداً وسلاماً». فما الذي دفعَ القيصر إلى هذا القرار؟ وهل هو جادٌّ في استعداداته لسحبِ القوات الروسية، ولدفعِ المفاوضات والسير بالعملية الإنتقالية في سوريا، أم أنّ في الأمر مناورةً وإعادةَ تموضُع؟تتباين مواقف المراقبين الروس في قراءاتهم لقرار الإنسحاب الجزئي الروسي، فمِنهم مَن يراه قراراً واقعياً، سواء أتى نتيجة للضغوطات أو كنتيجة لواقعية سياسية، ومنهم من يتخوّف ممّا سيحمله قرار الإنسحاب.
ففي حين اعتبر البعض أنّ القرار فرضَه الواقع الصعب للدولة الروسية، إذ لا يمكن الإستمرار بحملتين عسكريتين في سوريا وفي أوكرانيا معاً، يرى البعض الآخر أنّ الإنسحاب إذا صحّ فهو يعني هزيمةً جيوسياسية كبرى، خصوصاً في الوقت الذي بدأت فيه المفاوضات حول الحل السِلمي للأزمة السورية، فضلاً عن أنّ مصير وقف إطلاق النار لا يزال غير واضح، وبالتالي فإنّ روسيا تخسر بذلك ورقةً مهمّة في مفاوضاتها على الساحة الدولية وفي الشرق الأوسط تحديداً.
في الوقت عينه، يبدو أنّ حجم الضغوطات التي يمارسها الإتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية المالية بدأ يؤتي ثماره، ولا قدرةَ لتحمّلِ هذه العواقب. ويمكن اعتبار أنّ روسيا لا تريد التورّط في حرب مع تركيا، واحتمال التصادم بينهما بات ممكناً، إذ قد تتّخذ تركيا قراراً بالتدخّل إثر التفجيرات المتكررة في عاصمتها، كما أنّ تزويدَ المعارضة السورية بصواريخ أرض جو ستكون له تداعياته على كلّ الحملة الجوّية، ما لا يستطيع الرأي العام الداخلي تحمّلَ نتائجه.
وذهبَ المحلّل السياسي مكسيم يوسين أبعد من الآخرين في تحذيره من أنّ الخطر الأكبر لروسيا كيف ستتعامل المعارضة وحلفاؤها في الخارج مع قرار الإنسحاب، في حال فشلت المفاوضات، وتعود الأعمال العسكرية الى حدّتها، فهناك خطر بأن تبدأ القوات الحكومية بالتراجع وأن تتوالى الهزائم كما في السابق.
ويرى يوسين أنّ الرئيس الروسي لم يقدِم على قراره لولا مناقشة الأمر مع الأميركيين ودول الخليج، وربّما هناك ضمانة بعدم المساس بالوضع القائم الذي تغيّرَ بفِعل الضربات العسكرية على الأرض، وأن لا يكون مصير بشّار الأسد كمصير الرئيس الأفغاني نجيب الله الذي أطيحَ به ومن ثمّ أعدِم. ففي حال تطوّرِ الأمور في هذا الإتجاه فإنّ الواقع سيؤدّي إلى كارثة حقيقية بالنسبة لسمعة روسيا ومكانتِها ليس فقط في روسيا بل في كلّ العالم.
روسيا في مأزق
عضو الإئتلاف السوري المعارض نغم الغادري ترى أنّ روسيا في مأزق إقتصادي، وعلاقتها مع المجتمع الدولي تأثّرت بسبب هذا التدخّل، ويمكن إدراج قرار بوتين ضمن هذا السياق.
وتقول الغادري في اتّصال هاتفي من اسطنبول: «روسيا تورّطَت بدخولها سوريا، ويبدو أنّهم كانوا يتوقّعون شيئاً ما على الأرض وفوجئوا بواقع آخر. كانت القوات الروسية بمثابة غطاء للنظام السوري للتقدّمِ في بعض الجبهات، واحتلال بعض المناطق المحرّرة، ولا تستطيع أن تكون عضواً دائماً في مجلس الأمن وتستمر في استخدام الحلّ العسكري».
وتُشَدِّد الغادري على أنّنا «اليوم أضحينا أمام واقع جديد بعد الهدنة. صحيح أنّ هذه الهدنة تتعرّض لخروقات، لكنّها صامدة حتى الساعة. اليوم، الروس شركاء في الهدنة، وعدمُ دعمِهم الحلَّ السياسي يَطرح علامات إستفهام».
وتَعتبر الغادري أنّ «التدخّل الروسي كان لخلعِ العباءة الإيرانية عن كتِف الأسد، والأسدُ صار في جعبة الروس، وخيرُ دليل على ذلك زيارة الأسد إلى روسيا».
وتُبدي الغادري تفاؤلها واستشعارَها بمؤشّرات حلّ. وتقول: «روسيا قالت لنظام الأسد وإيران أنا من يُنجِّح الحل أو يُسقطه. نحن ذاهبون إلى مفاوضات، ويُفترض أن نخرج ببصيص أمل، لإكمال الجولة الثالثة. اليوم الروس عرّوا الأسدَ بهذا الموقف، وأظهروه وحيداً في جنيف، والحديث عن مرحلة حكم إنتقالي بات واقعاً بعد تبنّي بيان فيينا في قرار مجلس الأمن 2254 وتبنّي بيان جنيف 1 في القرار 2218».
مناورة بوتين الدبلوماسية
أمّا الباحث والكاتب الإيراني مجيد مرادي فيرى أنّ بوتين يناور دبلوماسياً بسحب قسمٍ من قوّاته العسكرية من سوريا.
ويقول مرادي في اتّصال هاتفي مع «الجمهورية»: «تصريح الرئيس بوتين المفاجئ باتّخاذ القرار بسحبِ قسم كبير من القوات الروسية من سوريا إذا وُضِع في سياقه الزمني يمكن اعتباره وتحليله كأداة ضغط على النظام السوري ومحاولة منه لدفع المفاوضات السورية - السورية إلى الأمام، لأنّ هذا التصريح جاء بعد تأكيد وزير خارجية سوريا وليد المعلّم على أنّ مصير بشّار الأسد خطّ أحمر في المفاوضات، وتصريح كبير مفاوضي النظام بشّار الجعفري بأن لا يوجد هناك شيء إسمُه المرحلة الإنتقالية».
بناءً على ذلك، إذا تمّ النظر إلى تصريح الرئيس الروسي في سياق هذين الموقفين يمكن اعتبار «كلام بوتين ليس فقط قراراً جدّياً بل يوجّه عبر هذا التصريح تهديداً أو إنذاراً إلى النظام السوري حتى لا يُجهضَ المفاوضات قبل وقتٍ مبكرٍ جداً، ولا يُفرغ المفاوضات من أيّ دلالة وجدوى عبر طرحه شروطاً تعجيزية ترفضها المعارضة».
وفي موازاة ذلك، يكون الغرَض من إعلان هذا القرار تطمين المعارضة بالنسبة للمفاوضات أو جرّها إلى طاولة المفاوضات وشراء الوقت لتعميق الهدنة التي ستصبّ لمصلحة النظام، على حدّ تعبير مرادي.
ويرى مرادي أنّ «القوات الروسية قد أدّت مهامَّها حتى الآن بقلبِ توازنات القوى على الأرض من السماء السورية، ولم يعُد لها الدور نفسه الذي أدّته خلال الأشهر السبعة الماضية. فضلاً عن أنّ قسماً كبيراً من القوات الروسية سيبقى في قاعدة حميميم الجوّية وفي قاعدة طرطوس البحرية».
ويُشدّد الباحث الإيراني على أنّ «النظام السوري وحلفاءَه لا يملكون القدرة على الإحتفاظ بإنجازات حصلت خلال تلك الأشهر عبر التنسيق بين الطائرات الروسية وبين الجيش السوري والمستشارين العسكرين الإيرانيين وحلفاء إيران، وهذه الحقيقة ليست خافية على الروس، وهم لن يكونوا «كالتي نقضَت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً»، ولهذا موقف بوتين لن يرقى إلى مستوى قرار يؤثّر على مجريات الأمور في سوريا، وفي ظلّ الهدنة التي تستمر لأسابيع على الأقل، يجد الروس فرصةً للتخفيف من حجم قوّاتهم في سوريا خلال مناورة دبلوماسية مفاجئة».
تشكيك في نيّة بوتين
في المقابل، يقلّل المحلل السياسي التركي في صحيفة «دايلي صباح» التركية محمد شيلك من أهمية قرار الرئيس الروسي، ويوضح شيلك في اتصال هاتفي مع «الجمهورية» أنّ موسكو ستحتفظ بوجود عسكري في سوريا، فالرئيس بوتين لم يذكر موعداً لإتمام الإنسحاب، وأنّ القوات الروسية ستبقى في ميناء طرطوس وفي قاعدة حميميم الجوّية في محافظة اللاذقية.
ويرى أنّه «من المبكر الحديث عن وجود نيّة طيّبة في خطوة بوتين، وأنّه أرادها لدعم قطار المفاوضات» الذي استؤنف أمس في جنيف.
ويقول: «من المبكر التخمين أنّ بوتين أنهى مهمّته في سوريا»، متسائلاً: «هل قضَت موسكو على «داعش»؟
ويشدّد شيلك على أنّ ما فعَلته روسيا كان إضعاف المعارضة المعتدلة وتقوية نظام الأسد.
ويقول: «اليوم، الأسد بات أقوى، وذهبَ إلى جنيف بأوراق قوّة، في حين إنّ المعارضة المعتدلة تقزَّمَ دورُها».
ويتّهم شيلك روسيا والنظام السوري بانتهاك الهدنة مرّات، ويَختم حديثه بالتشديد على أنّ الروس سوف يفاوضون في جنيف للحصول على أفضل المكاسب لنظام الأسد، فبقاء الأسد يضمن مصالحهم.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News