ليبانون ديبايت - عبدالله قمح
استفاق اللّبنانيون قبل أيّام، على نزاعٍ حريريّ جنبلاطيّ غاب ما يقارب الـ11 عاماً ليعود مجدّداً ولكن بأسلوبٍ عاصف وصل حد "تبليط البحر". ثمّة من يقول إنّ "تبليط البحر" هو من شيمة الحريري وبيته السياسيّ، الذي طمر الواجهة البحرية أو الواجهات البحريّة لبيروت، وفرشها إسمنت عوضاً عن الرمل الأصفر، وثمّة من يردّد أنّ جنبلاط ليس بـ"النبي"، فهو عمّم ثقافة النفايات على شكل "مطامر" حُفرت في قعر الجبل وعلى الشاطئ أيضاً، أي أنّ لا مُشكلة لكيلهما في "تبليط البحر"، أمّا الخلاف فهو على الحصريّة.
أعاد الخلاف الجنبلاطيّ - الحريريّ مرتفع السقف، المشهد إلى الفترة التي سبقت اغتيال الرئيس رفيق الحريري. يومها، كانت العلاقة تمرّ بفتراتِ مدٍّ وجزر ونزاع مرير وصل مرةً حدَّ وصف جنبلاط لقريطم أنّها "كرخانة". لاحقاً، جرى تخطي الأمر ما قاد لتطوّر العلاقة ووصولها إلى مرسى التحالف الذي انسحب بُعَيدَ "واقعة الاغتيال" على "الشيخ سعد" عام 2005، وتكليفه وراثة الحالة السياسيّة، فاختار جنبلاط السير إلى جانبه مميّزاً الحريري عن غيره.
قيل يومها إنّ سير جنبلاط مع الحريري "حديث العهد في السياسة" غايته جرّ وريث الحالة الحريريّة الى كنف الخطاب والمشروع الجنبلاطي الذي كان في اوجه حينها، وهو ما طُبِّقَ نظريّاً في كثيرٍ من الأماكن، ولكن وبعد اشتداد عود "الشيخ سعد" كان لا بدّ له من استقلاليّة في مكان، لخوض غمار معركته وتنفيذ أجندته الخاصّة التي بدأت على شكل تقوية عوده وتطوّرت إيجابيّة حتّى وصلت للعام 2011. في هذا العام، اختار جنبلاط الابتعاد "تكتيكيّاً" عن الحريري بعد أن ارتضى السكوت عن إسقاطه والسير لاحقاً بتسمية الرئيس نجيب ميقاتي لخلافة الأوّل، ما تسبّب بضيقٍ لدى قريطم التي عادت وصلّحت الأمور.
لكن نشأة الحريري السياسيّة التي تطوّرت بمجرى الزمن، يبدو أنّ "بيك المختارة" لم يعد باستطاعته مجاراتها أو ضبط إيقاعها، خاصّة في أعقاب الجنوح الواسع لـ"الحريري الابن" صوب الخيارات التي يعتبرها جنبلاط نقيضة له، بل تصيبه في مقتل، خاصّةً وأنّ الحريري بلغ المحظور في ذهابه بعيداً بخيارات تصبّ في عكس مصلحة "البيك"، كان أكثرها إيلاماً ووطأةً على "المختارة"، اختياره السير بترشيح العماد ميشال عون بعد أن تراجع عن ترشيح النائب سليمان فرنجية الذي كما تقول مصادر سياسيّة "ورّط الجميع به".
حقيقةً، لا تُخفي أوساط سياسيّة متابعة، أنّ خلف النزاع الجنبلاطيّ - الحريريّ الحاليّ أسباب عدّة متراكمة تفجّرت في لحظةِ تخلٍّ أماط اللّثام عنها سلسلة تغريدات، على رأس أسبابها شعور المختارة بالتصويب المباشر عليها، عبر قبول الحريريّ التناعم حدّ التماهي مع خيارات انتخابيّة منافية لا بل مضرة للمختارة، عمادها كان القبول بالاقتراح التأهيلي المستولدة تعديلاته من بنات أفكار الوزير جبران باسيل الذي يعتبر جنبلاط أنّه يسعى لـ"تقزيمه في الجبل"، وتالياً الابعاد المقصود للحالة الجنبلاطية عن التمثيل في لجان صوغ القوانين الانتخابية، فكانت موافقة الحريري على الاقتراح بمثابة من حمل المعول وبدأ الحفر في مناطق النفوذ الجنبلاطيّ للإيقاع بالبيك!
ارتضى الحريري يومها تفضيل مصلحته مع التيّار الوطنيّ الحرّ على علاقاته التاريخيّة، فسار بالخيار، لا بل إنّه ذهب بعيداً وصولاً حدَّ الغوص في قبول تقسيماتٍ واضحٌ أنّها لا تستهدف سوى جنبلاط في معاقله، ما كسر الجزء العِلويّ من الجرّة وعرّض السفليّ منها للانهيار. أمّا الخلل الثاني، فتمثّل، وفق المصادر السياسيّة، بالتماهي الحريريّ مع الخطط العونيّة لـ"تقشيط" جنبلاط غنائمه الاقتصادية التي حقّقها كمكتسباتٍ سياسيّةٍ منذ حقبة انتهاء الحرب الأهلية، والتي لم تكن "معارك الشوارع" سوى ممرٍ لتحقيقها، وهذه بالنسبة إلى جنبلاط "خطوط حمر ممنوع المسَّ فيها، كونها توفّر الحاضنة لزعامته".
تجرّأ الحريري على "الدقّ" بالمحاذير الجنبلاطيّة إذاً، مستعيضاً عنها بمكرمات تحالف العهد الذي يبدو أنّه بدأ تقسيم قالب الجبنة ثنائيّاً كما يشاء، متجاهلاً خطوطه البرتقاليّة المدوّنة في "الإبراء المستحيل"، وهو ما أجّج نار جنبلاط الذي استشعر مع حليفه الرئيس نبيه برّي، وجود مطامع لإخراجهما من التقسيمات الاقتصاديّة ووضع اليد على مكتسباتهما ومغانمهما، فأطلق "البيك" رصاصته الأولى صوب رأس الحريري مغرّداً: "لماذا لا تمرّ جميع المناقصات على إدارة المناقصات لمنع حيتان المال وحديثي النعمة والمفلسون الجدد من نهب الدولة وإفلاسها".
تكمن المشكلة في كلمة "حيتان المال" تحديداً، وهو التوصيف الذي كان يطلقه جنبلاط ضد الحريري الأب، فقرأت إعادة استخدام هذه الصفة في هذا الجو الملتهب وكأنّها استعادةً للخطاب والمعركة السابقة مع "بيت الحريري"، واستدراجاً جديداً لحقبة النزاع البائدة، فدقّ الحريري على صدره أمام الحاضرين في حفل إفطارٍ بيروتيّ قائلاً "من يريد أن يتعاطى معي على هذا النحو فليبلّط البحر.. أنا اسمي سعد رفيق الحريري. أنا لم آت لأستفيد من هذا البلد"، مذكراً أنّه "من المفلسين الجدد" موجّهاً الكلام نحو جنبلاط: "هناك موضة جديدة تطلّ علينا، بحيث تقوم جماعة جديدة بإعطائنا دروساً بالفساد على أساس أنّهم لم يستفحلوا بالفساد في السابق، فيجيؤون اليوم ويخبروننا عن سبل محاربة الفساد، في حين أنّنا نحن أكثر من يحارب الفساد وأكثر من اتّهمنا بالفساد..، غيري يكسب وكسب في السابق قروشاً من هذا البلد وسأحاربهم لآخر دقيقة".
انطلاقاً من آخر سطر، أعلن الحريري حربه "حتّى آخر دقيقة" وربّما المقصود بـ"آخر دقيقة" هو بلوغ آخر "تكه" من عمر العهد القائم، أي 6 أعوام، فهل سنشهد حرب داحس والغبراء من الآن وحتّى ذلك الموعد؟ .. ربّما، طالما أنّ النزاع يُقاس بـ"القرش".
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News