بالتالي، يبدو أن هذا الملف يُراد له أن يكون أداة ضغط على لبنان وحكومته، ليس من الجانب السوري فحسب، بل أيضاً من أطراف عربية ودولية. وبالربط مع التحولات السياسية والعقائدية التي طرأت على قائد سوريا الجديد، لم يعد لدى النظام السوري مشكلة في تقديم هذه الورقة الحيوية كقربان على مائدة الدول الكبرى، مقابل بعض الامتيازات التي تكرّس حكمه، ولتُستخدم لاحقاً ضمن ما يُعرف بـ”الحل الكبير للمنطقة” الذي يُراد إلحاق لبنان به.
هذا يتضح من خلال التسريبات الأخيرة التي تتحدث عن “زيارة محتملة” جديدة لنائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، تحت عنوان أنها تحمل “ورقة عمل جدية” ستُعرض على المسؤولين اللبنانيين، مرفقة بمهلة زمنية لتطبيقها. وقد وضعت هذه الورقة ملف “النازحين السوريين” كبند رئيسي، إلى جانب بنود أخرى، من المتوقع طرحها كـ”رزمة واحدة” أمام السياسيين في بيروت.
وفكرة مقايضة “النازحين السوريين” بفتح المجال أمام نقاش حول “السلام التدريجي” مع إسرائيل، تبدو أنها قطعت شوطاً مهماً، وتُستخدم كوسيلة إغراء مثالية لشرائح واسعة من اللبنانيين باتت ترى في ملف النزوح السوري عبئاً ثقيلاً، فضلاً عن كونه تهديداً ديموغرافياً خطيراً لا يحتمله لبنان. وانطلاقاً من هذه المخاطر، قد يجد البعض مبرراً لطرح فكرة “المقايضة” أو مناقشتها بجدية.
لكن عملياً، لا يمكن القول إن لبنان دخل بالفعل في مدار مناقشة ملف السلام مع إسرائيل، رغم أن البعض يُروّج لفكرة أن انخراط سوريا يعني تلقائياً انخراط لبنان لاحقاً. علماً أن أوساطاً سياسية، حزبية وأمنية، بدأت فعلياً تداول هذا الموضوع سراً وعلانية. فالولايات المتحدة ترى أن لبنان لم يُهيأ بعد كفايةً لخوض هذا المسار، ولذلك، وبحسب مصادر نافذة، فإن الخيار الأميركي يتجه نحو مسار تدريجي، يبدأ بتكريس مفهوم “هدنة طويلة الأمد” تترافق وضمانات ومغريات أمنية في الجنوب تحت ضمانتها، تُستخدم لتسويق الفكرة.
وتدرك واشنطن جيداً أن الوضع السياسي والأمني الراهن في لبنان لا يسمح بالانخراط في خطوات تطبيعية جدية مع إسرائيل، وذلك لتفادي تكرار تجارب تاريخية فاشلة، مثل اتفاقية 17 أيار، حيث أن غياب التحضير الكافي حينها أدى إلى انهيار الاتفاقية وسقوطها على نحوٍ مدوٍ، ما كرّس عودة قوى ظُنّ أنها انتهت، كما أسفر ذلك عن إدخال لبنان في آتون صراع أهلي دام سنوات إضافية.
وانطلاقاً من مبدأ “التعلم من التجارب”، تعتقد واشنطن أن الحضور الحالي لحزب الله في لبنان لا يزال عقبة أساسية أمام أي مشروع تطبيع أو سلام. وبالتالي، يجب تقويض قوته ونفوذه، وهو ما يعني ضمناً الاعتراف بفعالية الحزب ومقدار قوّته. وليس من باب التحليل المبالغ فيه القول إن مشاركة الحزب في الانتخابات البلدية، ثم تحضيره للمشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة، يهدفان إلى إظهار قوته الشعبية والسياسية وقدرته على فرض “فيتو” معرقل حين يتم طرح المواضيع بجدّية أكبر. يحصل ذلك بعد حرب يُفترض أنها أنهكته. وترى واشنطن أن مزيداً من الضغوط السياسية والاقتصادية، وربما الأمنية، قد يضعف الحزب أكثر، ويدفعه إلى تعديل رؤيته.
ولا شك بأن واشنطن، وعلى ما يبدو، سعت مؤخراً إلى التعاطي مع حزب الله بمرونة نسبية أو نوع من البراغماتية المحدودة، في محاولة لجذبه نحو التخلي عن سلاحه الثقيل مقابل تعزيز حضوره السياسي، وهو ما يتناقض مع المزاعم السابقة عن نية واشنطن القضاء عليه بالكامل، ويختلف كلياً عن أهداف قادة اليمين الإسرائيلي.
لكن حزب الله، الذي تعامل مع هذه الإشارات بهدوء، استغلها لتعزيز موقعه وإعادة تنظيم صفوفه ما بعد الحرب، ثم عبّر تدريجياً – حين بات يشعر بالتعافي – عن رفضه التخلي عن سلاحه من خارج ما نصّ عليه اتفاق 27 تشرين الثاني 2024، مؤكداً رفضه المطلق ليس فقط لفكرة السلام، بل حتى للتطبيع. وقد أوصل رسائل واضحة في هذا الاتجاه، مفادها استمراره في التسلح، خصوصاً في المناطق الواقعة خارج جنوب الليطاني والتي يعتبرها خارج أي اتفاق.
هذا ما استدعى من واشنطن اتخاذ سلسلة إجراءات، منها إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لتنفيذ عمليات عدوانية طاولت الضاحية الجنوبية لبيروت، وزيادة العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية على الحزب، بالإضافة إلى الاستثمار في تحريك ملفات داخلية ضده، بعضها يرتبط بأجهزة أمنية، ضمن مواجهة متعددة الأوجه تدور غالباً خلف الكواليس.
بالتالي، تدرك واشنطن أن حزب الله ليس بصدد المهادنة أو القبول بالتطبيع أو السلام، ولا حتى تبني خطوات تدريجية نحو بلوغ هذا الهدف. وربما إذا اختارت الولايات المتحدة فرض هذا المسار على الدولة اللبنانية من دون توافق مع حزب الله أو الطائفة الشيعية عموماً، وبالتحالف مع السعودية التي أصبحت ضابط إيقاع المنطقة، فقد تحصل عليه، لكنها بالمقابل ستواجه مشاغبة سياسية وأمنية غير مضمونة النتائج مصدرها الحزب.
لذا، على الأرجح، تتجه واشنطن إلى سحب الذرائع من يد الحزب، وتكثيف الضغوط عليه، عبر استثمار أوراق متنوعة كملف إعادة الإعمار، وطرح مقايضات مغرية من نوع “السلام مقابل النازحين السوريين”، إضافة إلى قضايا أخرى مثل تثبيت الحدود البرية، معالجة السلاح الفلسطيني داخل المخيمات، المساعدات الاقتصادية، والنهوض بالاقتصاد اللبناني.