إلى الآن، لا نزال عند معطى أساسي، وهو أن خليفة لم ينفّذ التسوية المُتفق عليها منذ نحو عام تقريباً، والتي قضت بأن يؤمّن 10 ملايين دولار نقداً في المرحلة الأولى، وفي المرحلة الثانية التي تمتد بين 10 أشهر و12 شهراً، سيضخّ 23 مليون دولار نقداً، ليتم خلالها إعادة أموال المودعين ولو عن طريق التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان. التسوية حالياً هي حبر على ورق بسبب خلاف بين خليفة والمساهمين في المصرف، حول الجهة المسؤولة عن تأمين هذه الأموال. ولذلك من المفيد إعادة النقاش في هذا الملف، ونحن على أبواب إقرار قانون جديد لإصلاح المصارف يعيد الثقة تدريجياً بالقطاع، فهل يمكن استعادة الثقة والبدء بصفحة جديدة في القطاع المصرفي من دون إنهاء سياسة التسويف والمماطلة التي تحيط بملف الاعتماد المصرفي؟
القصة من أولها
من المفيد التذكير بأن شبهة الفساد في “الاعتماد المصرفي” بدأت في العام 2023، بعد إعداد لجنة الرقابة على المصارف، وأمانة هيئة التحقيق الخاصة، تقارير مبنية على دراسة معمقة، تبيّن خلالها وجود مؤشرات عن عمليات مشبوهة بشأن فساد في المصرف المذكور، وهو ما استدعى من “المركزي” كفّ يد رئيس مجلس الإدارة طارق خليفة، وتعيين مدير مؤقت للبنك هو الدكتور محمد بعاصيري في شهر آذار 2024، للمباشرة بخطوات التدقيق والمحاسبة، لكشف العمليات المشبوهة، واتخاذ التدابير اللازمة.
بعد تعيين بعاصيري، أظهرت التقارير أن خليفة مسؤول عن خسائر هائلة في المصرف، توازي 10 بالمئة من مجمل ودائعه البالغة 2.9 مليار دولار (80 بالمئة من هذه الودائع بالعملة الأجنبية)، وهذه الخسائر تتجاوز قيمة أمواله الخاصة التي بلغت في عام 2020 نحو 277 مليون دولار (من ضمنها عقارات)، وفي عام 2020 وحده سجّل المصرف خسارة بقيمة 102 مليون دولار. واللافت أن القسم الأكبر من الخسائر التي تراكمت وأكلت رأس المال، لم تتحقق بسبب الانهيار المصرفي، إنما كان السبب الرئيسي اختلاس الأموال.
كما توصلت لجنة الرقابة ثم المدير المؤقت، إلى أن الشبهات تدور حول تحويل مبلغ 70 مليون دولار إلى الخارج لإقراضه عبر فرع البنك في أرمينيا، لكن سرعان ما تبيّن أنه دين هالك. كذلك تبيّن أن هناك عمولات مسحوبة من المصرف بأسماء أشخاص وشركات يُشتبه في أن لديهم علاقة عضوية بخليفة، وقد جرى تحصيل هذه العمولات بطرق مشبوهة لحسابات خاصة، كما تبيّن أن هناك اقتراضاً للأشخاص ذوي الصلة ومن بينهم خليفة، بشكل مقنّع عبر شركات لا تظهر أسماؤهم فيها مباشرة. وهناك الكثير من المخالفات التي بنتيجتها يتبيّن أن الخسائر قُدّرت حتى الآن بنحو 309 ملايين دولار (دولار مصرفي) أي 33 مليون دولار فريش.
أبو الزور: لا يمكن الإبقاء على “تسوية عشائرية”
تشرح المحامية دينا أبو الزور (عضو رابطة المودعين) لموقع “ليبانون ديبايت”، أن “الدكتور بعاصيري قام بما يشبه التدقيق الجنائي بما حصل في المصرف، حتى مرحلة معينة إلى حين استقالته لأسباب صحية. وبيّن التقرير الذي صدر عنه أن هناك فجوة مالية وهناك تعثر للمصرف وحاول طرح حلول للتسويات”، موضحة أنه “لا يمكن اللجوء إلى القضاء ويصل الملف إلى النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، ويطلب إحضار خليفة بالقوة، وبعدها تحصل تسوية على الطريقة العشائرية من قبل محامي خليفة (مارك حبقة)، فهذا الأمر من الناحية القانونية مرفوض ويُعتبر أول اهتزاز لهيبة القضاء”.
تضيف: “إما أن نتخذ الإجراءات القانونية وفقاً للأصول، أو نتحول إلى قضاء شيخ صلح، وهذا الأمر لم يبدأ مع القاضي الحجار بل بدأ في آذار العام 2022 مع المدعي العام السابق غسان عويدات، حيث تمّت التسوية الشهيرة مع مجالس إدارة المصارف في اجتماع وأصدروا بياناً حول كيفية إدارة الأزمة المالية، واستمرت هذه السياسة مع “الاعتماد المصرفي” لأنه تمّ التعاطي بشكل غير حازم مع الملف”، موضحة أنه “بموجب التسوية التي حصلت، أُعطي خليفة مهلة لضخ مبالغ جديدة فريش للنهوض بالمصرف، وإعادة أموال المودعين، أقلّه وفقاً لما تتطلبه التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان، وهذا ما لم يحصل لأسباب عديدة أولها خلاف داخلي في المصرف بين خليفة والمساهمين، حول الجهة التي يجب أن تتحمل مسؤولية رد هذه الأموال، لأن خليفة لا يعتبر نفسه الوحيد المعني بهذه التسوية، بل أيضاً جميع المساهمين، علماً أن التحقيقات أظهرت أنه مسؤول بشكل شخصي نتيجة اختلاسات معينة طالته وتهريب أموال مسؤول عنها”.
وتلفت إلى أن “السبب الثاني هو عدم حصول متابعة قانونية للتسوية التي تم الاتفاق عليها، والتي تعهّد خليفة بموجبها بضخ 10 ملايين دولار مباشرة، وبعدها يتم تسييل عقارات تابعة للمصرف، ليتبيّن أن هذه العقارات هي أصلاً في موجودات المصرف وتدخل ضمن الفجوة ولا يمكن التصرف بها، وهذا يُظهر أن من قام بالتسوية حاول الاحتيال على القضاء نفسه”.
تتابع أبو الزور: “حالياً نسمع أن ضغوطات تمارس على رئيس فريق التدقيق ميشال أبو جودة، (المُعين من قبل الإدارة المؤقتة للمصرف بالتعاون مع مصرف لبنان)، لوقف تقديم تقريره وحثّه على إجراء تعديل عليه، لأنه يحتوي أسماء شخصيات يمسها هذا التقرير واستفادت مما حصل في المصرف”، معتبرة أنه “من المفروض على النائب العام التمييزي أخذ زمام المبادرة وإعادة فتح هذا الملف، وأن يحصل تواصل بينه وبين حاكم مصرف لبنان لأننا حالياً في مرحلة إعادة هيكلة المصارف، وهناك قانون يُدرس في مجلس النواب وقريباً سيتم إقراره، خصوصاً أن هناك مصرفين قيد المتابعة القضائية هما “جمال ترست بنك” و”الاعتماد المصرفي”، ومن المرجّح أن يكون حاكم مصرف لبنان في أجواء ما يحصل لمعالجة ملفات هذين المصرفين”.
تتوقع “حصول تواصل بين الحاكمية ولجنة الرقابة على المصارف، وهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان والمدّعي العام التمييزي للوصول إلى خواتيم هذا المصرف، فإذا تبينت مسؤولية الأشخاص المذكورة أسماؤهم في التقارير، من المفروض أن يُحال هذا الملف إلى القضاء لتأخذ الأمور مجراها، لأن الشبهات التي تذكرها التقارير تتعلق باختلاس أموال وتحويل أموال بشكل غير محق، وتبييض أموال مُحتمل، وهي جرائم يُعاقب عليها القانون، وليس من المفروض أن تكون باباً للتسويات”.