يبدو أن بعض الأطراف الدولية تسعى إلى توظيف هذا الملف للضغط على الدولة اللبنانية ومؤسساتها الدستورية، لا سيّما الرئاسات الثلاث، من أجل اتخاذ مواقف أكثر حزماً تجاه حزب الله، أو للتمهيد لتغييرات ميدانية في آليات عمل قوات “الطوارئ” الدولية.
حادثة دير قانون النهر، التي شهدت احتكاكاً بين الأهالي ودورية تابعة لما يُعرف بـ”كتيبة احتياطي قائد القوة” (FCR) في اليونيفيل، ليست معزولة عن هذا السياق، بل تأتي ضمن نمط متكرّر من السلوك الذي يُظهر محاولة متعمّدة لاستفزاز البيئة المحلية أو اختبار حدود تحمّلها. هذه الحادثة لم تكن الأولى، ويُرجّح ألا تكون الأخيرة. إنه مسار نشط ستُبنى عليه نتائج تدريجية، وكلّما زاد العنف ومحاولات التصدي للقوات الدولية، زادت الأخيرة من استفزازاتها.
يمكن القول إن ما حدث في دير قانون النهر ليس أمراً مفاجئاً أو مناورة عبثية، بل هو نتاج فعل تراكمي ومحاولة هيمنة ذات أبعاد سياسية تمارسها رئاسة الأركان الفرنسية التابعة للقوات الدولية، عبر ما يُسمّى بـ”قوة احتياطي قائد القوة”، التي تخضع لإمرتها المباشرة، وتتشكل من كتائب عدّة، من بينها الكتيبة الفنلندية.
المطلوب إذاً هو احتكاك مقصود مع السكان، حيث يتم التوجّه إلى أماكن حسّاسة دون مواكبة الجيش اللبناني، بهدف تفتيشها، ما يستدعي ردّ فعل من الأهالي. هذا السلوك يعيد طرح التساؤلات نفسها حول الأهداف الحقيقية وراءه، خصوصاً في ظل توقيت تُطرح فيه أسئلة جدية عن مصير هذه القوات، وهو ما قد يكشف نوايا بعض الدول في تحويل “اليونيفيل” من قوة مراقبة إلى أداة ضغط ميداني وربما أمني على حزب الله.
تأتي هذه الحادثة في ظل أجواء ومباحثات متكرّرة منذ عام 2009 حول مصير “اليونيفيل”، لكن أهميتها هذا العام تنبع من أنها تأتي في أعقاب حرب تعتبر إسرائيل أنها حققت فيها مكاسب عسكرية، وتسعى إلى أن تواكبها القوة الدولية بتحرّر أكبر من بعض القيود اللبنانية. لذلك، تلوّح إسرائيل والولايات المتحدة بعدم دعم فكرة بقاء القوات الدولية.
من جهة أخرى، يُطرح في الكواليس احتمال أن تتراجع الولايات المتحدة عن تمويل “اليونيفيل”، بحجّة تقليص النفقات أو الإخفاق في أداء المهام. إلا أن الهدف الاستراتيجي من وجود هذه القوات في الجنوب لا تلغيه التطورات العسكرية مهما بلغت أهميتها، بل قد تعزز الحاجة إليه.
خلال الفترة الماضية، تعاملت إسرائيل مع “اليونيفيل” وكأنها وصيّة عليها، ووظّفتها عبر القنوات المعتمدة في البحث عن مواقع وأسلحة تخص المقاومة. وخلال الحرب الأخيرة، نفّذت الـFCR عدة جولات تفقدية شملت مخازن مفترضة لصواريخ حزب الله، ويُقال إنها أحكمت الطوق على بعضها أو دمّرته. وفي بعض الحالات، أتى تدخل هذه القوة بعد أن قامت إسرائيل بقصف مواقع. كما لاحقت هذه القوة في أوقات كثيرة آليات عسكرية تابعة للمقاومة أو منصات إطلاق صواريخ، وفتّشت مناطق حرجية وسكنية، ما وفّر نوعاً من الرقابة التي تخدم إسرائيل بشكل واضح.
عملياً، ما يُطرح الآن في الإعلام، قبل نحو شهرين من موعد تجديد تفويض “اليونيفيل” لعام إضافي، هو أن الوضع في الجنوب لم يعد قادراً على تحمّل “القبعات الزرق”، وأن الولايات المتحدة، الساعية إلى تقليص نفقاتها، تفكر في أن يتولى الجيش اللبناني سدّ الفراغ الناجم عن إنهاء دور “اليونيفيل”.
لكن يمكن القول إن الجيش لا يرغب في هذا الدور الحساس، لأنه ببساطة سيجعله في مواجهة مباشرة مع السكان ربطاً بالمهام المنوطة به. كما أن طبيعة عمل الجيش لا تسمح له بأداء مهام “اليونيفيل” كما ترغب بها إسرائيل، أي كقوة تفتيش واقتحام تتحول إلى شرطٍ لأمن تل أبيب.
يُضاف إلى ذلك أسباب تقنية ومالية شديدة الأهمية. فالجيش اللبناني، الذي ينشر حالياً في جنوب النهر نحو 7000 جندي فقط من أصل 15 ألفاً مطلوبين منه، لا قدرة له على تطويع المزيد من الجنود بسبب نقص الإمكانيات المالية لديه ولدى الدولة عموماً. كما أن تعويض فراغ “اليونيفيل”، التي يُقدّر عديدها بنحو 12 ألفاً منتشرين اليوم، يتطلب تجهيزاً خاصاً وقدرات تفوق بثلاثة أضعاف الإمكانيات الحالية، وهو ما لا تستطيع الدولة اللبنانية تحمّله.
حتى الأسباب المالية التي يُلوّح بها البعض كذريعة لإنهاء تفويض “اليونيفيل”، من غير المنطقي أن تتحوّل إلى عبء على الجيش اللبناني، تحت عنوان “عصر النفقات”.
ببساطة، لا يرى الجيش مصلحة له في تولي هذا الدور، لأنه لا يريد أن يتحوّل إلى “كبش محرقة”، مما قد يؤدي إلى انقسام سياسي وأمني قد يمتد إلى عموم الأراضي اللبنانية. ولهذا، فإن القاعدة الأساسية للتفكير لبنانياً يجب أن تكون في تمكين “اليونيفيل” والعمل على استمرار وجودها، وهو ما يعبّر عنه الرئيس نبيه بري تحديداً.
في المقابل، يبدو أن “اليونيفيل” تسعى إلى تحسين شروط وجودها على الأراضي الجنوبية، بحيث تتحول إلى قوة تدخل ذات صلاحيات أوسع، وقادرة على التصرّف عسكرياً من دون العودة إلى الجيش اللبناني. أي أنها تسعى لأن تتحول فعلياً إلى أداة هجومية لا دفاعية، وهو ما يُفترض أنه يقوّض دور الجيش اللبناني نفسه.
وربما يكون هذا هو القرار الذي اتخذه الجنرال الفرنسي بتفويض من قيادته في باريس، من خلال الـFCR، لأن باريس ببساطة لن تقبل بخسارة دورها ضمن هذه القوات، في ظل تراجع نفوذها في أفريقيا وسوريا. وبالتالي، فهي مستعدة لتقديم ما يمكن من تنازلات وخدمات للمحافظة على وجود “اليونيفيل”، ولو كلفها ذلك التمادي في اتخاذ إجراءات قد تضعها في مواجهة شرسة مع شريحة كبيرة من السكان، بما يشمل الإصرار على دخول مناطق بالقوة، ولو كلّف ذلك إراقة دماء.