في كواليس السياسة اللبنانية، خيّمت في الأيام الأخيرة أجواء غير مسبوقة من الترقب، مع وصول رجل الأعمال الأميركي المعروف بقربه من البيت الأبيض، توم باراك، إلى بيروت حاملًا رسالة لا تحتمل التأويل. ووفق مصادر سياسية مطّلعة، سلّم باراك القادة اللبنانيين الثلاثة لائحة مطالب تصدّرها بند بالغ الحساسية: نزع سلاح حزب الله. وعلى الرغم من محاولات البعض التقليل من وطأة هذه الخطوة، فإن أجواء لقاءات بعبدا – عين التينة – السراي لم تكن مريحة.
فقد بدا اجتماع رئيس مجلس النواب نبيه بري برئيس الحكومة نواف سلام خاليًا من الطمأنينة، بالرغم من الأجواء الإيجابية التي حاول الاثنان بثّها. ويكفي التمعّن في ملامح بري خلال لقائه قائد الجيش رودولف هيكل لاستشعار حجم خطورة ودقة المرحلة. أما نبرة حزب الله فكانت بالغة الوضوح، إذ خرج الشيخ نعيم قاسم بتصريح لافت قال فيه: “إذا أرادت إسرائيل الحرب، فلتكن الحرب”، موجّهًا رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج بأن ملف السلاح ليس مطروحًا على طاولة التفاوض، رغم حالة التفاؤل التي تروّج لها دوائر بعبدا عن تقدم المفاوضات مع الحزب.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل حزب الله مستعد فعلاً لنزع سلاحه؟ أم أن البندقية باتت جزءًا من هويته قبل أن تكون خيارًا استراتيجيًا؟ وبين من يعتبر السلاح عبئًا، ومن يراه ضمانة وجود، يقف لبنان اليوم على مفترق تاريخي لا يشبه ما سبقه. الذين يرفضون مبدأ نزع السلاح لا ينطلقون فقط من خلفية “المقاومة”، بل من معادلة أكثر تعقيدًا.
فعدد من كبار كوادر الحزب مطلوبون للإنتربول بتهم تتعلق بالإرهاب والجريمة المنظمة. وتشير مصادر مطّلعة إلى أن نزع السلاح قد يفتح الباب أمام محاكمات داخلية أو تسليمات خارجية. بمعنى آخر، السلاح بالنسبة لهؤلاء ليس مجرد أداة دفاع، بل مظلة أمنية وسياسية يصعب التخلي عنها دون ضمانات قضائية واضحة. إضافة إلى ذلك، تبقى ثقة الحزب بخصومه، وعلى رأسهم إسرائيل، شبه معدومة.
فحتى لو جرى تسليم السلاح بإرادة سياسية داخلية، لا ضمانة بأن توقف إسرائيل عمليات اغتيال قادته. والاغتيالات اليومية خير دليل على ذلك، ما يعزز لدى الحزب قناعة بأن نزع السلاح دون منظومة ردع هو أشبه بانتحار تكتيكي.
وفي الوقت الذي تتجه فيه الأنظار جنوبًا، تبرز في الشرق معطيات لا تقل خطورة. ففي الشام، استولى أحمد الشرع على السلطة وشرع في محادثات سلام مع إسرائيل وسط أجواء توحي باتفاق وشيك. الشرع، الذي لا تُمحى من الذاكرة معاركه مع حزب الله في عرسال أيام جبهة النصرة، يعيد رسم ملامح المنطقة.
ومع انتشار مقاتلين من الإيغور والشيشان على حدود لبنان، ومعارك حوش السيد علي التي كشفت هشاشة الخطوط الخلفية للحزب في البقاع رغم وجود السلاح، تُطرح علامات استفهام كبيرة حول واقع الحال إذا ما خسر الحزب سلاحه، خصوصًا في غياب ضمانات تبقي الحدود اللبنانية السورية آمنة.
أما مصادر تمويل الحزب، فقد تكرّست عبر منظومات أُقيمت على مر السنوات بحماية السلاح والسيطرة على مفاصل متعددة في الدولة، ما يجعل التساؤل مشروعًا: كيف يمكن التخلي عن السلاح دون ضمانات فعلية تصون هذه المصالح؟ في المقابل، ينطلق مؤيدو فكرة تسليم السلاح من قناعة بهزيمة الحزب في مواجهاته مع إسرائيل وخسارة إيران لنفوذها في الإقليم، ويرون أن هذا السلاح فقد فعاليته في توازن القوى مع العدو، الذي واصل احتلاله وقتله وأسره بلا رادع، فيما ظل الحزب بعيدًا عن الدفاع حتى عندما تعرّض البرنامج النووي الإيراني للتدمير. بالنسبة لهؤلاء، لم يعد للسلاح من وظيفة سوى فرض الهيمنة الداخلية، وهو ما يرفضونه، داعين إلى تسليمه دون شروط. وبحسب تقديرات أمنية، فإن الحديث عن نزع السلاح في ظل هذه الظروف يبدو أقرب إلى التمنيات السياسية منه إلى خطوة واقعية.
فالحزب، المتمرّس في الحرب الأمنية والعسكرية، يمتلك شبكة أمنية وعسكرية وحاضنة شعبية قوية ومتماسكة برزت في الانتخابات الأخيرة، ما يجعله جاهزًا لقلب الطاولة على الجميع إذا ما حاولت الدولة فرض شروطها بالقوة. كما يشير مطلعون إلى أن قرار تسليم السلاح ليس لبنانيًا بحتًا، بل إيراني في جوهره، وإيران المثقلة بالأزمات لن تقدِم على أي تنازل دون مقابل، ما يبقي الحل بيد المفاوضات الإيرانية – الأميركية.
في المحصّلة، قد تشكّل زيارة باراك ومطالب نزع السلاح بداية مرحلة جديدة، لكن لا أحد يستطيع الجزم بأن حزب الله في وارد التخلي عن “سلاح البقاء”. وبين رغبات واشنطن، وضغوط تل أبيب، وصمت طهران، يبدو أن الملف دخل نفقًا مظلمًا طويل الأمد، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الحسابات الوجودية، ما يضع لبنان أمام مرحلة بالغة التصعيد والحساسية، بين مطرقة حرب إسرائيلية محتملة وسندان اقتتال داخلي، حتى يحين موعد تسوية قد تعيد لبنان إلى “قوته في ضعفه”، أو تلحقه بركب الاتفاقيات الإبراهيمية.