"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
القضية ليست مجرّد قرار اتخذه مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة نهار الثلاثاء الماضي، سواء تعلق بـ”حصر السلاح” بيد الدولة اللبنانية أو بنزع سلاح المقاومة. القضية في جوهرها تتعلّق بتحريم وتجريم الفعل المقاوم نفسه. إنها محاولة لتجريم الإطار الذي يُمارَس أو سيُمارَس من خلاله هذا الفعل، الآن وغدًا وفي المستقبل، بغضّ النظر عن طبيعة النشاط وحدوده.
ولا تبدأ القضية بقرار، سواء بقي صوريًا أو جرى تنفيذه ـ فذاك بحث آخر. المقصود هو قرار مطلوب فعليًا أن يتضمن محددات زمنية وآليات تنفيذية، يصدر عن مجلس الوزراء الذي يتحمّل، من لحظة صدوره، مسؤولية تبنيه، وتُلقى عليه تبعات حسن تنفيذه.
المسألة تتجاوز الانقسام الداخلي حول أصل فكرة المقاومة، بين مؤيد ومعارض، لتصل إلى محاولة اجتثاث المقاومة نفسها. ويكاد ما يُحاك يشبه قوانين “اجتثاث البعث”، سواء في العراق سابقًا أو في سوريا اليوم.
ما يُطلب اليوم من أركان الوصاية الجديدة، الأميركية تحديدًا، ليس فقط انتزاع اعتراف من الحكومة اللبنانية بأن المقاومة المسلحة جسم غير شرعي ولا يشبه الدولة، بل تجريم أنشطتها على كامل الأراضي اللبنانية.
أي قرار من هذا النوع سيجعل من ناشطي المقاومة ـ أياً كانوا ـ خارجين عن القانون. سيمهد الطريق لإدراجهم في خانة “الميليشيات الخارجة عن مفهوم الدولة”، ما يعني منع التعاطف معهم أو مساعدتهم أو دعمهم. وسيتحوّل الإطار المقاوم بمؤسساته وصروحه ومنشآته الصحية والتربوية والاجتماعية والرياضية والسياسية إلى هدف للملاحقة، وتصبح الدولة غير ملزمة تجاهه، وتُمنع الأجهزة الأمنية من التنسيق معه. ويصبح كل فرد يختار نهج المقاومة، بصرف النظر عن الإطار، عرضة للملاحقة، وكأنه “طافر” أو مجرم. وتُدرج كل تظاهرة داعمة للمقاومة، أو تُنظم من قبل ناشطيها، في خانة “غير القانونية”، وتُعامَل كما عوملت سابقاتها، كمثل تظاهرات جسر المطار عام 1993.
القضية ليست مجرّد قرار يُتّخذ ونمضي، وكأن شيئًا لم يكن. ثمة مسٌّ بالوجود، بطبيعته، بأسبابه، وبسرّ بقائه. هناك محاولة لضرب المرتكزات، والتراكمات، والإنجازات، والوعي الذي نشأ، والمكتسبات السياسية، والتوازنات الداخلية. هناك استهداف لقدرة بيئةٍ ومقدّراتها، وهذه ليست ملكًا لأفرادٍ حاليين، بل لجيلٍ قادم. وهناك تجاهل تام لأرض محتلة، وتهديدات واعتداءات يومية، وهناك امتثال صريح ومباشر لأولوية تفكيك المقاومة على تفكيك الاحتلال. وهناك إصرار واضح لا نظير له، حول رفض فكرة دعوة العدو إلى تقديم خطوات، والضغط في سبيل ذلك، إنما ثمة إقرار بأن لبنان قد خسر الحرب وعليه الامتثال!
وليس الخطر فقط في أن تمتلك الولايات المتحدة أو أوروبا، ومعهما بعض العرب، صكًا قانونيًا صادرًا عن الدولة اللبنانية يبيح تجريم المقاومة واستهدافها ومعاقبتها، بل في فتح باب الملاحقة لأي فرد، أو كيان، أو مؤسسة، تتبع لها أو تدور في فلكها لمجرد الشبهة. وتبدأ حملة لا تنتهي، لا تستهدف تنظيمًا بحدّ ذاته، بل طائفة بأكملها. ويُفتح الباب أمام دعوات خارجية “شرعية” لمكافحة هذا الإطار، بما فيه توقيف رجاله وسبي نسائه لمجرد الشبهة أيضًا. ولا ينفع في تأمين الحماية لا مرجعية ولا دولة ولا قرارات.
سنصبح وتصبحون غدًا أمام قانونٍ على الدولة تنفيذه حرفيًا، وأمام الولايات المتحدة المتسلحة بقرار صادر عن مجلس الوزراء، لتبرير أي تحرك في لبنان تحت ذريعة أن الدولة عاجزة عن تنفيذ قراراتها، وأن ميليشيا (وهي حزب الله) تتمرد عليها. وهكذا، يخرج من يطلب المساعدة، والتدويل، وربما التدخل، بذريعة أننا تحت احتلال داخلي يعيق الدولة ويشلّ قدرتها ويسلب إرادتها. وتصبح واشنطن، كما فعلت في دولٍ كثيرة، تمتلك مبررًا لتحرك عسكري، والآخرون هناك يمتلكون مبرر الدعوة إلى وضع لبنان تحت الفصل السابع مثلًا، طالما أن هناك قرارًا على الطاولة، والدولة عاجزة عن تطبيقه.
وستصبح أيضًا، بفعل القرار وتبعاته، والنظر إلى المقاومة وحزب الله، الرافض بكل ثقة لتسليم السلاح دون ضمانات، المؤسسات، بكل تصنيفاتها: الصحية، الرياضية، التربوية، الاجتماعية، السياسية، والفنية، قيد الملاحقة. وقد نرى جهة ما تسن قانونًا لتجريم نشاط “القرض الحسن”، أو أخرى تعتبر “الهيئة الصحية” مؤسسة عسكرية، أو أن مؤسسة الشهيد ومدارس المهدي وجامعة المعارف، صروح ومؤسسات تروّج للشر. ولأنها ببساطة، وفق زعمهم، ترفد المقاومة بالطاقات والموارد، وتساهم في استمرارها.
غدًا سيحضر من يُطالب بتفكيكها في إطار مشروع تفكيك حزب الله، والمقاومة كفكرة. وهذا لم يكن مقدرًا له أن يحصل، من دون وجود القرار “الإمعة” الصادر عن مجلس الوزراء في جلسة نهار الثلاثاء. ببساطة كلية، لأن القرار – القانون، أسّس إلى منطق “التجريم”، ليس من الضروري اليوم، بل غدًا، وأتى في سياق سياسة “الاجتثاث”، التي تستهدف “الدب” وفكرته، وكل ما يرتبط به.
لماذا نرفض قرار نزع السلاح؟
ببساطة، لأنه ليس صناعة لبنانية، ولو وُجد لبنانيون يوافقون عليه. ولأنه ليس بريئًا من كل التهم أعلاه. ولأن ما يُخطط له، ويُراد له أن يتحقق، يتجاوز مسألة نزع سلاح، ليصل إلى تجريد مجتمع بأكمله من فكرته وكرامته ووجوده. لأنه ببساطة فعل مؤسَّسة يرمي إلى ما يرمي إليه.