"ليبانون ديبايت" - باسمة عطوي
طرحت الحكومة اللبنانية في مشروع موازنة 2026 مادة جديدة (المادة 31)، تقضي بإلزام إدارة الجمارك استيفاء رسم بنسبة 3 بالمئة من قيمة كل عملية استيراد، على أن يُسجَّل هذا المبلغ كأمانة على حساب ضريبة الدخل، ويُحسم لاحقًا من الضريبة السنوية المتوجبة على الأرباح. قد يبدو النص، للوهلة الأولى، مجرد إجراء تقني لتعزيز التحصيل الضريبي المسبق، لكنه يفتح الباب على نقاش عميق بين خبراء قانون الضرائب حول فلسفة التكليف الضريبي، والعدالة في توزيع الأعباء، والقدرة الفعلية للدولة على مكافحة التهرب والتهريب.
جوهر المادة وإشكاليتها المحاسبية
يسجل الخبراء عدة ملاحظات على الضريبة المقترحة، أولها أنه بحسب تصريح وزير المالية، من المتوقع أن ترفد هذه المادة الخزينة بما يقارب 600 مليون دولار سنويًا. غير أن واقع التحصيل الفعلي لضريبة الدخل في لبنان لا يتجاوز 160 مليون دولار سنويًا. لذلك من المشروع طرح التساؤل الجوهري التالي: كيف يمكن ردّ 600 مليون دولار من حصيلة لا تتخطى 160 مليونًا؟
الجواب البديهي برأيهم أن القسم الأكبر من المكلفين لا يصرّح عن أرباحه الحقيقية، وأن فجوة التهرب الضريبي والتهريب واسعة إلى حد يستحيل ردمها عبر إجراءات شكلية كهذه. أي أن الدولة تحاول جباية المبالغ من “المكلفين الملتزمين” لتعويض عجزها عن ضبط المتهربين.
أثر الرسم على الأسعار والسوق
الملاحظة الثانية بحسب الخبراء هي أن فرض رسم بنسبة 3 بالمئة على الاستيراد، ولو سُمّي “أمانة”، سينعكس مباشرة على كلفة البضائع. فتجربة السوق اللبنانية تؤكد أن أي رسم أو ضريبة جديدة يؤدي إلى مضاعفة الأسعار بنسب أعلى من نسبته الاسمية، نتيجة معادلات العرض والطلب والهوامش التجارية. وتشير التقديرات إلى أن الرسم سينعكس بزيادة تفوق 12 بالمئة على أسعار السلع المستوردة. هذا الارتفاع سيعمّق التضخم، ويزيد من تآكل القدرة الشرائية للمواطن، ويثقل كاهل الطبقات الوسطى والفقيرة.
في أصول التكليف الضريبي
أما الملاحظة الثالثة فهي أن المبادئ العامة للضريبة تستند إلى ثلاثة ركائز أساسية: العدالة أي توزيع الأعباء بحسب المقدرة التكليفية، الحياد أي عدم تشويه السوق أو خلق أعباء إضافية غير مبررة، والفعالية أي تحقيق الهدف المالي دون الإضرار بالنشاط الاقتصادي. في حين أن الرسم الجديد يناقض هذه المبادئ، فهو غير عادل لأنه يحمّل المستوردين الملتزمين عبء جباية عجز الدولة في مكافحة التهرب، وهو غير حيادي لأنه يرفع الأسعار ويضعف التنافسية، وهو أيضًا غير فعّال لأنه لا يعالج أصل المشكلة (التهريب والتهرب) بل يضاعفها، إذ يدفع التجار نحو البحث عن طرق التفلت من الاستيراد النظامي.
السياسة الضريبية بين الردع والتشجيع
الملاحظة الرابعة هي أن الأصل في السياسة الضريبية أن تكون أداة لتنظيم الاقتصاد وتحفيز الالتزام، لا أداة عقابية ضد الملتزمين. وفرض رسم إضافي بهذا الشكل يشجع التهرب، إذ تصبح الكلفة على الملتزمين أعلى بكثير من كلفة المخالفين، ويفتح الباب للتهريب، لأن المستوردين سيبحثون عن طرق بديلة لتفادي الـ3 بالمئة، خصوصًا في ظل الحدود غير المضبوطة. كما يفاقم فقدان الثقة بين المكلف والدولة، وهو العنصر الأخطر الذي يضرب أي نظام ضريبي.
البديل الإصلاحي
أما الملاحظة الخامسة فهي أنه بدلًا من فرض رسم عشوائي يرهق الاقتصاد، المطلوب معالجة جذور الخلل عبر تعزيز الرقابة الجمركية باستخدام التكنولوجيا الحديثة ومكننة المعابر، توسيع القاعدة الضريبية بدلًا من زيادة العبء على المكلفين الملتزمين، وتفعيل أجهزة التدقيق الضريبي لملاحقة المتهربين الكبار بدل الاقتصار على صغار التجار، واعتماد ضريبة القيمة المضافة (VAT) المعززة بالرقمنة لضمان تحصيل تلقائي على الاستهلاك.
ويخلص الخبراء إلى القول إن “المادة 31 من مشروع موازنة 2026 تكشف عن نهج مالي يعالج النتائج بدل الأسباب، أي أن عجز الدولة عن ضبط التهريب والتهرب تُرجم بقرار يضاعف الأعباء على الملتزمين، ما يهدد بمزيد من التضخم، وتفاقم فقدان الثقة، وتشجيع الاقتصاد الموازي”، معتبرين أن “السياسة الضريبية السليمة لا تُبنى على معاقبة الملتزمين، بل على توسيع العدالة والشفافية، وضبط المتهربين، وصياغة نظام ضريبي عصري يحفّز النمو بدل أن يخنقه”.