كشفت سلسلة تحقيقات صحافية إسرائيلية عن مفاجآت مدوّية تتعلق بملف “الملاك” أشرف مروان، صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والمقرّب من خلفه أنور السادات، والذي طالما قُدِّم في إسرائيل بوصفه “أفضل عميل” للموساد. التحقيق الجديد، المدعوم بمستندات كانت مصنّفة شديدة السرية وأفرج عنها بالحد الأدنى بإذن الرقابة العسكرية، يقدّم رواية معاكسة: مروان لم يكن جوهرة التاج الاستخباري الإسرائيلي، بل رأس حربة في خطة خداع مصرية محكمة مهّدت لهجوم مفاجئ في 6 تشرين الأول 1973.
تورد الوثائق أنّ مقرّ الموساد عمّم في 4 أيلول 1973 نشرة على “توزيع عالٍ” بعنوان “مصر–إسرائيل/التحضيرات لاستئناف القتال نهاية 1973”، استناداً إلى مصدر مشفّر أُطلق عليه أسماء “الأرجواني/الكتان/الملاك” اتضح لاحقاً أنه مروان. النشرة نسبت إلى السادات حديثاً عن حرب مؤجلة إلى “نهاية العام”، مع تعليمات باستكمال “مخازن الطوارئ” بهدوء. بعد أربعة أيام فقط، وزّع الموساد برقية موازية عن سوريا بعنوان “سوريا–إسرائيل/التحضيرات لنهاية 1973”، تفيد بأن الرئيس حافظ الأسد وافق على الموعد ذاته. هذه البرقيات بثّت طمأنة قاتلة في المؤسستين العسكرية والاستخبارية الإسرائيليتين: رئيس الموساد تسفي زامير قدّر على ضوئها أنه لا حرب خلال سنة، ورجّحت شعبة الاستخبارات (أمان) أنّ شروط “الكونسبتسيا” لم تكتمل بعد.
غير أنّ التحقيق يؤكد أنّ “الملاك” كان يكذب. فقبل أيام قليلة من تلك الإحاطات، حضر مروان بنفسه لقاءات حساسة بين السادات وملك السعودية، ثم السادات والأسد في دمشق، حيث جرى تثبيت موعد الحرب فعلياً في 6 تشرين الأول. ومع ذلك، واصل بث رسائل التهدئة. بل إنّ مروان، وفق الوثائق، صاغ على مدى عام 1973 نمطاً متعمّداً من “الإنذارات الكاذبة” تارةً، و”التطمينات المضلّلة” طوراً، بهدف إنهاك منظومة الإنذار الإسرائيلية واستنزافها في حالة استنفار طويلة، ثم إعادتها إلى روتين خادع قبيل الضربة.
وتسرد المستندات واقعة لافتة رفعت أسهم مروان في تل أبيب إلى السماء: في أيلول نفسه، نقل للموساد معلومات ساعدت على إحباط مخطط ليبي لإسقاط طائرة ركاب إسرائيلية قبيل هبوطها في روما. تَحوّلُه المفارق إلى “منسّق” لعملية يتولاها السادات والقذافي معاً رسّخ صورته “العصية على الشك”، إلى حد أنّ زامير جعل نفسه “المُشغّل الثاني” له سابقةً وحيدة في تاريخ الجهاز. هذه العلاقة الشخصية العميقة – كما يوحي التحقيق – ساهمت في تعطيل آليات التحوّط المعتادة: لا اختبار كشف كذب، ولا تبديل للمشغّل على مدى 27 عاماً، ولا تشكيك جدي في حجم ونوعية المواد “المذهلة” التي كان يقدّمها الشاب المدلل في قلب منظومة الحكم المصرية.
حتى عندما قدّم مروان “إنذار الحرب” عشية 6 تشرين الأول، جاء ذلك بعد فوات أوانه العملياتي: أحد عشر ساعة فقط قبل الهجوم، من دون مهلة التعبئة الضرورية لجيش الاحتياط. والأسوأ – وفق التحقيق – أنه نصح بتسريب “المعلومة” للإعلام العالمي لردع المصريين، فالتقط زامير الطُعم ونقله إلى رئيسة الوزراء غولدا مئير، ما هدَر وقتاً إضافياً في صباح يوم الغفران بين اجتماعات مع السفراء ومداولات حول “ضربة استباقية” لم تُنفّذ. وعندما اندلعت المعارك عند الساعة 13:55، كانت الفاتورة باهظة.
بعد الحرب، يستعيد التحقيق واقعة أخرى: استدعاء مروان لزامير إلى باريس في 19 تشرين الأول، حيث ضخّ “معلومات رادعة” – ثبت بطلانها لاحقاً – عن امتلاك مصر “400 صاروخ سكود” موجّهة إلى تل أبيب، في محاولة لتأثير مباشر على شروط وقف إطلاق النار. النتيجة العملية، بحسب الرواية الإسرائيلية الجديدة، أنّ “أفضل عميل” ساعد أيضاً على دفع المستوى السياسي في إسرائيل نحو إبرام تهدئة سريعة بشروط مريحة للقاهرة.
لا يتوقف التحقيق عند سرد الوقائع؛ بل يضيء فجوات مبدئية أثارها مخضرمون داخل الموساد منذ البداية: كيف لشاب في منتصف العشرينات، صهر الرئيس وذراع السادات، أن يوفّر هذا الطيف الواسع من الوثائق والأسرار العسكرية الحساسة بلا مقابل تقريباً وبلا احتياطات أمنية؟ ولماذا كان يتحرك بسيارات دبلوماسية مصرية إلى مواعيد مع جهاز يفترض أنه “يخونه”، من دون أن يقلق من رصدٍ بريطاني ينقله إلى القاهرة؟
في إسرائيل، تُشعل هذه الوثائق مراجعة موجعة لواحدة من أكثر “البقرات المقدسة” في سردية حرب تشرين: الرجل الذي قيل إنه أنقذ إسرائيل، قد يكون – وفق هذه القراءة – ساهم في تعميق مفاجأتها. أمّا في مصر، فالمادة تغذّي رواية راسخة لدى قطاع من الرأي العام تعتبر مروان بطلاً وطنياً نفّذ خطة خداع ناجحة وترك خصمه يتخبط في “حرب غير التي استعدّ لها”. بين روايتين متناقضتين، تعود “قضية الملاك” إلى الضوء كسؤال مفتوح على السياسة والاستخبارات والتاريخ معاً.