هذا الإيقاع العسكري لم يعد رسالة في سياق المواجهة فقط، بل تحوّل إلى محاولة لصياغة مشهد حدودي جديد: إسرائيل تُريد جنوباً منضبطاً بشروطها، حتى لو لم تُعلن ذلك رسميًا. وكل ذلك يجري بينما الدولة اللبنانية تبدو غائبة عن المعادلة، منشغلة بأزماتها البنيوية: فراغ سياسي، اقتصاد منهار، أجهزة أمنية تتحرك تحت سقف الحد الأدنى.
التحوّل الأميركي
أخطر تطوّر في الأشهر الأخيرة جاء من واشنطن قبل أيام قليلة، حين قال السفير الأميركي في بيروت إن تل أبيب لا تنتظر موقف الولايات المتحدة لشنّ عملياتها. هذه العبارة تُلخّص تحوّلاً استراتيجيًا: واشنطن لم ولن ترغب في لعب دور كابح الاندفاعة الإسرائيلية. تُفضّل ألّا تتورّط، وألّا تمنح غطاءً مباشراً، لكنها أيضاً لا تقف في طريق إسرائيل.
إنه نوع من “التخلّي الناعم”: لا يتضمّن إعلاناً رسميًا، لكنه يُفهم سياسيًا وعسكريًا كرسالة واضحة بأن الإقليم لم يعد في رأس سلّم أولويات واشنطن، وأن لبنان لم يعد ملفاً تحتاج الولايات المتحدة إلى إدارته كما كانت تفعل في مراحل سابقة. هذا التحوّل يعني للبنان شيئاً واحداً: معظم ما سيجري على الحدود سيُحسم بين تل أبيب وحزب الله، من دون وجود قوة دولية فعلية تضع حدودًا أو تمنح ضمانات.
خيار الاستسلام… أم خيار الردع؟
أمام هذا المشهد، يُطرح سؤال بديهي: ماذا يريد لبنان؟ الحرب أم الهدنة؟ الإجابة ليست بسيطة. فلبنان كدولة ومجتمع واقتصاد لا يريد الحرب، ولا يحتمل تبعاتها. لكنّ الاستسلام للمعادلة الإسرائيلية ليس خياراً ممكناً، لا سياسياً ولا واقعياً. إذ إن قبول الاستباحة من دون ردّ يعني عملياً إسقاط ما تبقّى من ميزان الردع، ودفع الحدود الجنوبية إلى وضعية “هدف مفتوح”.
حزب الله يقرأ المشهد بهذه الطريقة: أي خطوة إلى الوراء ستُفسَّر في تل أبيب على أنها فرصة ذهبية للتقدّم. لذلك يرفض الحزب خيار التراجع، ويرى أن إسرائيل لا تفهم سوى منطق الكلفة. مقابل ذلك، تتقدّم داخل بعض الدوائر اللبنانية فكرة أخرى: أن على لبنان أن يخفّف الاحتكاك وأن ينكفئ عن الحدود، لأن البلد لم يعد قادراً على تحمّل تحدّيات المقاومة وسقف المواجهة.
وهذا الخطاب، مهما كانت نواياه داخلية أو إصلاحية، يصبّ موضوعياً في خدمة السردية الإسرائيلية التي تقول إن المشكلة في سلاح الحزب وليس في أطماع تل أبيب.
الداخل اللبناني في مواجهة نفسه
هذا الانقسام في الخطاب لم يعد سياسياً فحسب، بل تحوّل إلى معركة سرديات تتجاوز لحظة التوتّر العسكري. هناك خطاب لبناني يرى إسرائيل كخطر وجودي ويعتبر الردع ضرورة، وخطاب آخر يعتبر أن المشكلة داخلية بالكامل ويحمّل المقاومة مسؤولية كل ما يجري.
المشكلة أن هذا النقاش، في حدّته الحالية، يُهدّد الاستقرار الداخلي أكثر مما تهدّده الطائرات الإسرائيلية. فحين تصبح السرديات متناقضة إلى هذه الدرجة، تتراجع قدرة البلد على إنتاج موقف موحّد، ولو في الحد الأدنى، ويزداد الشرخ بين فئاته.
هذا الشرخ ليس تفصيلاً. إنه يفتح الباب أمام مرحلة لبنانية جديدة: مرحلة يُصاغ فيها معنى “الأمن القومي” على قاعدة انقسام لا يملك لبنان القدرة على تحمّل نتائجه.
دولة غائبة… وحدود تُدار بالرسائل
في ظروف طبيعية، تُدار الحدود عبر الدولة، الجيش، المؤسسات، القنوات الدبلوماسية. لكن لبنان اليوم بلا قرار مركزي فعّال. محدودية حركة الحكومة، والضغط الاقتصادي، كلها تجعل من الدولة لاعباً غير قادر على الإمساك بالملف الجنوبي. وهنا، يبرز أحد أخطر أوجه الأزمة: الحدود تُدار بخطاب الحزب وخطاب إسرائيل، فيما الدولة تتحرك في منطقة رمادية. وهذه الفجوة تعني شيئاً واحداً: أي تصعيد، مهما كان محدوداً، قد يأخذ لبنان إلى مكان لا يستطيع العودة منه بسهولة، لأن لا أحد يمسك بالمقود.
والتطورات الإقليمية تزيد الطين بلّة. دول الخليج منهمكة في استراتيجيات اقتصادية طويلة الأمد، العراق وسوريا غارقان في ترتيبات داخلية معقدة، مصر تحت ضغط اقتصادي كبير، أما أوروبا والولايات المتحدة فتعيدان ترتيب أولوياتهما بعيداً عن الشرق الأوسط.
وجود لبنان على خريطة الأولويات تراجع إلى حدّ الغياب، ما يجعل الاستباحة الإسرائيلية تتمّ بلا رادع، ويجعل الضغط السياسي على لبنان يدخل في المنطقة الرمادية.
أزمة تعريف: ما هو دور لبنان؟
كل ما سبق يقود إلى سؤال واحد يختصر الأزمة: ما هو دور لبنان اليوم؟ هل هو دولة محايدة؟ ساحة مواجهة؟ جزء من محور إقليمي؟ دولة ذات سيادة كاملة؟ بلد يوازن بين الدولة والمقاومة؟
هذا الغموض ليس مجرد مشكلة فكرية. إنه أحد الأسباب الجوهرية لضعف لبنان أمام إسرائيل. فحين لا يعرف بلدٌ ماذا يريد أن يكون، يصبح الآخرون أكثر قدرة على تحديد دوره نيابة عنه. من هنا، يصبح المطلوب اليوم ليس فقط سياسة حدودية جديدة، بل إعادة تعريف موقع لبنان في الصراع، وحدود الدور الذي تلعبه المقاومة، وشكل العلاقة بين الدولة ومعادلات الردع، والكيفية التي يمكن للدولة أن تكون فاعلة فيها في سياق إقليمي شديد التعقيد.
عليه، يقف لبنان اليوم في منطقة شديدة الخطورة: إسرائيل تتصرّف بلا سقف، واشنطن تتراجع خطوة إلى الخلف، الداخل ينقسم بلغة تُشبه خطاب الخارج، الحدود تُدار بلا دولة، والإقليم لا يضع لبنان في سلّم أولوياته.
المسألة ليست احتمال حرب فقط، بل احتمال اهتزاز داخلي قد يكون أكثر خطورة. فالحرب تُدار عبر معادلات، أما الانقسام الداخلي فيُدار بالغريزة ومن دون سقف أو ضوابط. وهنا يصبح السؤال الحقيقي: هل يستطيع لبنان أن يصوغ رؤية مشتركة، ولو ضئيلة، تحميه من سيناريوهين قاتلين: حرب تأتي من الجنوب، أو شرخ يأتي من الداخل؟
البلد اليوم بين فكّي كماشة. والخروج من هذا المأزق يحتاج إلى ما هو أبعد من تكتيكات: يحتاج إلى تعريف جديد للدولة، وللسيطرة على الحدود، ولطريقة قراءة الخطر، قبل أن يجد اللبنانيون أنفسهم أمام لحظة لا يمكن التراجع عنها.