في خضم الحديث المتسارع عن التفاوض و"الفرصة الأخيرة" قبل نارٍ قد تشتعل في أي لحظة، يبرز سؤال لا يجرؤ كثيرون على طرحه، ماذا نملك فعلياً لنقدّمه على طاولة التفاوض؟ فالمطلعون يعلمون أنّ لبنان يدخل هذا المسار وهو في أضعف حالاته ومن دون أن يمتلك اي أوراق ضغط، ومن دون قوة ردع، ومن دون موقع تفاوضي قائم على قوة أو مكاسب أو أوراق استثمارية يمكن استخدامها في لحظة الحسم.
الورقة الأولى، وهي ورقة الدولة القوية، قد سقطت منذ سنوات. فالمؤسسات الحكومية منهكة والقرار السياسي مشرذم والسياسة الخارجية مرهونة بتناقضات الداخل وتوازنات الخارج. اما الورقة الثانية، وهي ورقة الاقتصاد، فقد خرجت من اللعبة بعدما انهار النظام المالي عام 2019 وفقد لبنان دوره الإقليمي، ولم يعد يمثل "فرصة" إلا بالمعنى النظري الذي لا يدفع أحداً لتغيير معادلاته من أجله.
أمّا الورقة الأمنية، وهي الأكثر حساسية، فقد تسلّمتها القوى الخارجية عملياً. فالسلاح الذي كان يُعتبر ورقة تفاوضية كبرى بات اليوم جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل، وبات يُستخدم ضد لبنان أكثر مما يُستخدم لحمايته. والأسوأ أن الدولة نفسها تعترف ضمناً لا تملك سيطرة كاملة على هذا السلاح لتفاوض به أو تقدّم بديلاً عنه.
هكذا، يصبح دخول لبنان في مسار تفاوضي اشبه بدخول لاعب إلى مباراة حاسمة من دون فريق، ومن دون خطة، ومن دون احتياط. لبنان يفاوض لأنّ الضغط كبير، لا لأن جهّز ورقة بالشروط والمطالب، يفاوض لأنّ التهديد يزداد لا لأنّه يملك خيارات. وهذا هو المأزق ، فعندما تدخل إلى التفاوض من موقع الاضطرار، تصبح كل أوراقك مكشوفة، وتتحول "التنازلات" إلى "شروطك، وتتقلص مساحة المناورة إلى الحد الأدنى.
المشكلة هنا ليست في مبدأ التفاوض، بل في أنّ لبنان لم يذهب إليه يوماً من موقع القوة. فكل الفرص التي كانت تشكّل أوراقاً للبنان تمت خسارتها، موقع لبنان الاقتصادي، ميزته الجغرافية، قدرته على إدارة التوازنات الإقليمية، علاقته بالعالم العربي، وحتى ورقة الجيش التي كانت تُعتبر رصيداً، باتت اليوم محكومة بسقف وحجم وقدرة يحدّدها الخارج أكثر مما يحدّدها الداخل.
لذلك يطرح السؤال، إذا كانت كل الأوراق قد سُلّمت أو ضاعت أو أُهملت، فبأي ورقة سنفاوض؟ وكيف ندخل إلى طاولة يُنتظر منا أن نقدّم فيها حلولاً بينما نحن لا نملك إلا الاعتراف بالعجز؟
إنّ أخطر ما في المشهد هو أن لبنان يدخل مرحلة تقرير مصير بلا قوة، ويتعامل مع مفاوضات حساسة بلا أوراق، ويقف أمام لحظة استحقاق كبرى بلا أدوات. وهذه ليست مشكلة تقنية ولا أزمة "توقيت"، بل أزمة دولة فقدت عناصر قوتها، ثم وجدت نفسها مضطرة للتفاوض، وهم يعلمون تماماً أنها لا تملك ما تضعه على الطاولة.