"ليبانون ديبايت" - ميشال نصر

من دون سابق إنذار وصل موكب قائد الجيش الى بدارو ليتفاجأ به العسكريون قبل المدنيون. انه جوزاف عون أراد أن يعاين على الأرض في يوم عمل عادي، مكانا لطالما زاره خلال حياته العسكرية معانيا ما عاناه رفاق الدرب، بعدما تضخم عدد العسكريّين من دون أن يواكب ذلك زيادة في امكانات الطبابة العسكرية نظراً لظروف كثيرة.

ولعل المفاجأة الأكبر كانت في اكتشافه ان وجوده في اليرزة طوال عام ونيّف، قد حقّق نقلة نوعيّة، في رحلة الألف ميل، التي كانت خطوتها الأولى بحجم مئة ميل، بفضل توافر الارادة، الفريق، والخطة، فكان الانجاز الذي يبنى عليه للمستقبل، في عمليّة بناء طبابة عسكرية تطمح لان تكون بمستوى نظيراتها في دول العالم حيث المستشفيات العسكرية من افضل المرافق الطبية.

طبيعي أن خطوة قيادة الجيش لم تأت من فراغ وما تحقّق كان حتى السّاعة وليد ظروف جديدة تحكم عمل واستراتيجية العماد جوزاف عون ورؤيته للجيش اللبناني في المستقبل، فكانت الخطوات غير التقليدية من امتحانات الكفاءة في الكلية الحربية التي اصبحت واقعا، الى الجرأة في تطويع مئات الاناث من حَملة الاجازات الجامعية كرتباء، الى سد مزاريب الهدر المختلفة الذي أدى إلى تحقيق فائض في التغذية والمحروقات "اعيد تدويره" لصالح العسكريين. كل ذلك دون ان تترتب اي اعباء اضافية على خزينة الدولة وجيب المكلف اللبناني، الذي ما بخل يوما عن تقديم الغالي والرخيص لجيشه، الذي لولاه لما انجز ولا حقق انتصارات على ما يؤكد قائده دوماً.

وفي اطار هذه الخطة الاستراتيجية لبناء جيش عصري، لم تسقط قيادة العماد عون من حساباتها قطاع الاستشفاء في الجيش، حيث يبلغ عدد المستفيدين منه حوالي 400 الف مواطن، اي 10% من الشعب اللبناني، الذي وضع صحته عهدة بين يدي اليرزة، التي بحثت السبل والخطط والاحتمالات على اختلافها من خصخصة الى غيرها، حيث تبين ان قطاع الاستشفاء العسكري قادر على بناء جسم سليم لجيش سليم في حال توافرت الارادة وهو ما كان.

عام ونيف، احتاجت رحلة من اليرزة الى بدارو، لا تشبه ايا من رحلات القائد وجولاته التفقدية، ولا اي من تلك التي جرت في الماضي والتي طالما رأى فيها "رواد" المستشفى العسكري والطرابلسي "حفلات فولكلورية" تبدأ بعمليات طرش وتلميع لبعض الاقسام وتنتهي بصورة على صفحات مجلة الجيش. امر لم يحصل بالامس، فكانت المفاجأة ومن العيار الثقيل.

متنقلا بين الاقسام والمباني، القديم منها والمستحدث، متحدثاً ومستمعاً الى المرضى وعائلاتهم، متفاعلاً معهم، بود واحترام، متأثرا لألمهم، واعداً بحزم بنقلة نوعية موعدها سنة، تكون بمستوى طموحاتهم وتلبي حاجاتهم، باثاً الطمأنينة في نفوس من قدموا من الأطراف بحثاً وراء شفاء... أناس بادلوه العاطفة بمثلها، هو الذي تجول بين أهله وناسه، الذين لطالما أملوا بإسماعه حرقتهم ليكن لهم ما أرادوا من دون سابق انذار.

ولأن جيل العسكر الجديد هو ركيزة البناء الصلبة واساسها، كانت اطلالة القائد على اللجان الطبية الفاحصة معيداً التأكيد على التعليمات، داعياً الى عدم الاستماع لتوصية أو اتصال، فسلامة الجسد من سلامة العقل، قبل أن ينتقل الى قيادة الطبابة ويجتمع بالضباط والأطباء مثنياً على جهودهم ومحيياً تعبهم وسهرهم ومشيداً بتجاوبهم وتعاونهم الذي انتج "معجزة" تحتاج الى الكثير من العمل بعد، بروح من التعاون لاعادة الثقة الى المستفيدين من الخدمات الطبية العسكرية بجهازهم الجديد، وليتباهوا بأنهم من المستفيدين من مرافق تلك الطبابة.

بالأمس لم يكن يوما ًعادياً للـ 400 ألف مستفيد من الطبابة العسكرية، الذين سيحملون معهم أملا قبلته السنة المقبلة، عنوانها مزيد من التقدم لمرفقهم الصحي، وثقة عمياء بوعد قائد ما أخل يوماً بعهد، فكما انتصر على الارهاب وحرر الارض، سينتصر لحقوقهم محققا ًلهم الصحة، فيطول عمره وعمرهم مع أمنيته بأن يكون أول المستفدين من تلك الطبابة.

هكذا غادر القائد محملا ًبكل تلك الصور، آملاً في زيارته المقبلة طال زمانها أم قصر ان نكون قد قطعنا الـ 500 ميل، ليفخر الجميع بمؤسسة عسكرية لا تبخل على شبابها وشيبها وشهدائها، همها همهم وألمها من ألمهم.