"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

إخماد ثورَة الثَّورَة التي اندلَعَت في تشرين الماضي سيكون أصعَب بِكَثير مِن إخماد ثَورَة كورونا. يَجوز لا بَل يتوجّب على المفكِّرين بالمَعنى الإستراتيجي التّركيز على هذا المَجهول القادِم إلينا لنكونَ أقلَّ جَهلاً بِه. تَعاظُم قِوى ثورة لبنانيَّة جديدة وعَدَميَّة ليسَ فَقط بسبب عَوامِل الهَريان الدّاخِلي فحَسب، إنما أيضاً بسبب إنهيار المنظومَة العالميَّة سياسياً وأمنيّاً وإقتِصاديّاً. لا أخاً أكبَر ولا إبنَ عمٍّ سَنَد ولا صديقاً وقت الضّيق ينتظر على قارِعَة كورونا ليعطينا كَسرَة رَغيف.

الثورة القادِمَة ستفتّش عَن نموذَج جديد في لبنان. ليسَ مستَبعَداً إنهيار تحالفات كانَت قائِمَة في بَلدنا قبل أزمَة كورونا. بَلدنا سريع الذوبان سياسياً وإقتِصاديّاً. لا شيئ يَمنَع قيام تَحالفات جديدَة على رفاتِ التّحالفات التقليديَّة القائِمَة اليوم.

باتَ واضِحاً أنَّ المنظومَة السياسيَّة التي حَكَمت لبنان قبلَ حكومَة حسّان دياب لَم تَعد تمارِسُ دورَ القبطان بالمَعنى الفِعلي. أكثَر فأكثَر تعمَل هذه القِوى وكأنّها قِوى إستشاريَّة. مرجعيّات بالطّبع إنّما شبيهَة بِمجلِس شَورى أي بمقررات غير ملزِمَة. بعدَ أشهر قَليلَة ستتعرّض إلى غارَة مَتحفيَّة. ستَكون في مَتحَف بيروت للفرجَة!
القِوى الأساسيَّة كلّها مأزومَة. تيّارات شعبيَّة كبيرَة كانَت فيما مَضى تشكِّل رافِعات إنتخابيَّة تبحَثُ اليَوم عَن منصَّة شرعيَّة شَعبيَّة جديدَة. عَن فِكرَة تتحلّق حولَها الجَماهير. الأفكار القَديمَة سَقَطَت. سقَطَ معها تحالف الأقوياء بعدَ أن ذوّبَت كورونا بأسيدِها معدَن القَوي في كل مَكانٍ تَقريباً.

نعيشُ في لبنان مأزَق المأزَق. مأزَق يعرفُ نفسَه ويعترِف بوجوبِ سلخِ جلدِه إنما يَفتَقِر إلى سكّين. أحزابٌ تفتّشُ مِن دون طائل على مبرّر جديد لِوجودِها. مِن رُكب مَوجَة الثوار ما قبل كورونا إلى المشارَكَة في تَوزيع الحِصص الغِذائيَة على الأكثَر تَهميشاً، إلى تَنظيم حملاتِ التّصفيق عَن البلاكين للطواقِم الطبيَّة والإسعافيَّة وصولاً إلى إنتاجِ وحَدات أوكسجين إصطناعي صُنِعَت في لبنان. كلّ هذه المحاولات لَن تُعيق ظاهِرَة تَكنيسِ القَديم. الأمر راديكالي. يشبِهُ تَماماً يافِطات الحِراك ما قبلَ كورونا. سيَكون على الدّولَة مواجَهَة الثوار بأعدادِهِم المتعاظِمَة بالعِصي والقَنابِل مِن جديد. ستتحول الدولَة عندَها إلى آلَة قَمع ستالينية. أو سيكون عليها تسليم مقاليد الحكم للثوار وعندها ستصبِحُ الدّولَة على شاكِلَةِ كوبا. وَطَنٌ ذو نَظرَة كَونية إنما بأزقَّة للبؤس يضحَك عليها العالَم.

هذه هي أزمَة لبنان بعدَ أن يحطّ كورونا أوزارَه. سقوط المؤسسات عندَ أوَّل شتوَة على الأرجَح في تِشرين. أوَّل شَطفَة. أتساءَلُ وسطَ هذه الفَوضى في الصورَة كيفَ ستَكون المواجَهَة. المواجهَة مَحتومَة فلنتّفِق. ولَكِن هَل تَكون عَلى شكل حرب أهلية جَديدَة؟. عَلى شكل قوةّ إستعماريَة منتَدِبَة؟ على شكل مؤتَمَر تأسيسي جديد؟ عَلى شكل طائِف معدَّل جينيّاً؟ هَل يتحضّر الحُكم في لبنان للآتي الأعظَم؟

مِن بوّابَة الإقتِصاد ستدخلُ الفَوضى. سوء حَظّ تاريخي للحُكُم أن يعلِنَ لبنان دولَةً نفطيَّة في زمنٍ تتحوّلُ فيهِ الدّولَة إلى كَيانٍ هَجين هوَ مَزيج من البيافرا وصقليَّة. حفنَة من المافيات في مواجَهَة حفنَة من الفقراء الجِياع. مقدّسات ومحرّمات سيتمّ مَحوَها على الطّريق. أفضَل توقّع هوَ الأمن الذاتي وعَودَة ميليشياتِ الأمرِ الواقِع. لبنان عِندَها سيتحوَّل إلى جُزُر مَقضومَة مهضومَة. ستتعمّق التباينات الإيديولوجيَّة والدينيَة وتتخِذ أشكال مُواجَهَة بشِعَة.

مع تفشّي هذا الوَرَم ستموتُ الثّورَة التي عَرفناها قبلَ كورونا. بعدَ كورونا ستنشُبُ ثورَة أخرَى. ثورَة الجِياع والفقراء والعاطِلين عن العَمَل. طبقَة كانَت منذ فترَة وَجيزَة خارِج هذا التّصنيف. صارَت أو تَكاد تصبِح ضمنَه اليَوم.
العالَم بعدَ كورونا لَن يَكون جاهِزاً للمساعَدَة. إقتِصادات بِحَجم الإقتصاد الأميركي سيكون مهتمّاً بإنقاذِ نفسِه. أوروبا سَتكون مشغولَة بإعادَة صِياغَة الفِكرَة الاوروبيَّة بعدَ إصابَتِها بترهّلات كَبيرَة. ستهتمّ بعدد أسرَّة مستشفياتِها بعدَ المصيبة الإيطاليَّة.

سيكَون لبنان مَتروكاً لأوَل مرَّة في تاريخِه الحَديث إلى شهيّةِ جيرانِه. حروب متنقّلَة ستنشب. كلّها تَجريبيَّة. كل المواجَهات ستكون غير إستراتيجيَّة. العنوان سيكون المأكَل للجِياع والمشرَب للعِطاش والمسكن للمساكين. سيكون هناك ضُمور للفِكر والتّخطيط مع ضمور المَوارِد والأموال والرّعايَة الدوليَّة.

نعيشُ عَن جَدّ نِهايَة لبنان عَلى ما أنِسناهُ وعَرِفناه. مفارَقَة غَريبة إنما لا تَخلو من الرّعب أن نتحدّث عَن هذه السّنَة كمئويَّة لبنان الكَبير. مئويَّة واحِدَة بالتأكيد أنهَتها كورونا. أنهتها أيضاً صراعات أهل السلطَة في لبنان عَلى بقايا الكَراسي والأموال مِن لبنان الجَميل الذي عَرفناه.