"ليبانون ديبايت" - روني أَلفا

ينتظرُنا إنفجارٌ أكبرُ من النيترات. إنفجارُ مصيرنا كشعبٍ بعد انقشاعِ الغبار. نحن شعبٌ من الضروري عرضَنا جماعياً على علماءِ نفسٍ لمساعدتنا على كيفيةِ معالجةِ كوابيسنا على مدى مئة عام وأكثر. كابوسْ أو حلمٌ جميلٌ مستجِدٌّ هذه الأيام هو عبارةٌ عن هجمةٍ غير مسبوقة ومشكورة في كل الأحوال لجمعيات المجتمع المدني من أجل إعادةِ الإِعمار في ظل الفشلِ في إعادةِ الأَعمار. إجتياحٌ ليأسِنا المخلوطِ بعسلٍ إصلاحيٍ مزغولٍ والذي يحتلُّ أرجاءَنا النفسية منذ أكثر من ثلاثينَ سنة. أكثرُ من مرةٍ انفجرنا بالوعود وتشظّينا بالكَذِب.

المهم. بعدَ إنفجارِ المرفأ صارت جمعياتُ المجتمعِ المدني دويلةً داخلَ الدولةِ أيضاً. ليس بالمعنى المؤدلَج الذي يستعملُه خصومُ المقاومة. بالمعنى الإداري واللوجستي والتنظيمي والخدماتي. من داخلِ اليأسِ نتطلّعُ الى هذه الجمعيات تفرقعُ مثلَ " البوشار " تحتَ النار. بموازاةِ تقديمها لنا " فاست فود " وطني على ركامِ الدولةِ ورمادِها ، تتبارى وسائلُ الإعلام في تدميرِ بقايا الدولة. إعلامٌ لا يريدُ حتى لملمةَ أشلائها والتعرُّفَ على حمضِها النووي. صرنا نعتمدُ بفعلِ قصفِ البروباغاندا في أكلِنا وشُربِنا وملابسنا وأثاثِ بيوتِنا على المنظمات. ستنمو قريباً جمعياتٌ تلتزمُ أمنَ القرى والمدن. جمهوريةٌ صارت برمَّتها غير حكومية. الدولةُ تسلّمُ عتادَها الى الجمعيات وتصبحُ لاعباً على مقاعدِ الإحتياط.

هناك مشروعُ مرسومٍ يلوحُ في الأفق حول تحويل الهبات الى جمعياتِ المجتمع المدني وإعفائها من الرسوم والضرائب. حصرُ التّحاوبل بالهيئة العليا للإغاثة وشمولُ الطوائف بنعمةِ التصرف بالهبات فيه شيءٌ من الطوباوية. هيئةٌ تعملُ كشاحنةٍ محمّلةٍ بالحديد مقصِّرة على طلعة جَبَل. هيئةٌ موكلة منذ عقود بالتعويض عن ضحايا الكوارث لم تنجح في أغلب الأحيان وربما لأسباب خارجة عن إرادتها إلا بال " العَوَض بسلامتكن ". عينُها بصيرةٌ ويدها قصيرة. من صلب مهماتها التأسيسية العملُ على تفادي الكوارث قبل العمل على معالجة نتائجها. ماذا فعلت في تفادي انفجار المرفأ؟ هل كانت ضحيةَ استبعادها والإستهتار بصلاحياتها؟ كيف ستتعاملُ مع الكمِّ الهائلِ الذي ينتظرها من مساعداتٍ وهباتٍ عينيةٍ وماليةٍ ستتقاطرُ من كل أنحاءِ العالم؟ وفق أي منظومةٍ رقابيةٍ وتنظيميةٍ سيتمُّ تلقّي هذه المساعدات؟ هل تملكُ الهيئة الجهاز الكفؤ والمُمَكنَن لإدارة حجم التدفقات على بلدنا؟

الطوائف. مشروعُ المرسوم يتيحُ لها استقبالَ كل شيء بلا رسومٍ وبلا ضرائب. مرة جديدة تضربُنا الصاعقةُ وبدل أن نذهبَ الى الدولة نذهبُ الى الطوائف. بدل أن نفزَعَ الى أجهزة توزع الخيرَ بالقسطاس على كل اللبنانيين ووفقَ حاجاتهم نركنُ الى أجهزةٍ تبيعُ الله في عُلَبِ السردين والتونا. طوائف خيرُها على معتنقيها وفيرٌ وعلى الرعيّةِ الكبرى عسير. الأخطر أن مشروعَ القانون تسطّره الدولة. الدولةُ تلغي نفسها لصالحِ قديسيها وأبرارِها. ستصيرُ كلُّ كنيسةٍ دولة وكلُّ مسجدٍ حكومة وكلُّ خلوةٍ مجلس تشريعي وكلُّ عمامةٍ جمهورية وكلُّ إسكيمٍ وطن. بكلِّ بساطةٍ وبدلَ أن نخرجَ الى الدولةِ من بقايا الدولة خرجنا من بقاياها إلى بقايانا. بقايانا بعد الإنفجار وأشلاؤنا ستقفُ بالصفّ لتتسوَّل قطعة زجاج وإطار ألومنيوم وكرتونة سمنة حموية وقرضَ إعمار وستكونُ دكتاتورية الجمعيات معطوفةً على طغيان السلطان الديني والطائفي والمذهبي مدخلاً إلى توسيع الهوة بين المواطن والدولة. أكثر. سنتحوّلُ بسرعةٍ من مواطنين الى رعايا ومن رعايا إلى سَبايا وغنائم عالقين وسط حروبٍ دينيةٍ أزليةٍ أبدية.

أين الدولةُ؟ خرجت ولم تعد. الرجاء ممن يعرفُ عنها شيئاً الإبلاغ عنها في أقرب مخفر. أين المخافر ؟ ملهيةٌ بمحاضر الضبط. وسطَ أزمةِ الثقة هذه نفتّشُ، شرط أن يكون التفتيشُ بالسراج والفتيلة، فنجدُ حفنةً من كوادر الدولة ينتمون رغم كل الإغراءات الى الدولة. هم ممثلو المجتمع المدني الحقيقي لأنهم ماتوا ألفَ مرة من أجل الدولة. لأنهم يستحقون أن يمشوا في الصفوف الأمامية لل " ثورة " ولم يمشوا لأنهم يحترمون دوام العمل. لأنهم أُصيبوا إصابات خطيرة في انفجار بيروت ونُقِلوا الى المستشفيات ويتابعون عملهم في أسرّتها والأمصال في شرايينهم والقِطَبُ على وجوههم. هؤلاء شركاء الدولة الجديدة التي يجب أن تولد من " رحم الأحزان ". من رحم المكاتب الحديدية الصدئة التي سجنتهم فيها الدولة فتحرروا بالعلم والمثابرة فأدهشىوا عباقرة العالم دون أن ينجحوا في إدهاش أغبياء الدولة المهترئة.