"ليبانون ديبايت" - بِقَلَم روني ألفا

أَن يؤدي قائدُ الجيش تحيةً عسكريةً وسطَ عزفِ نشيدِ الموتى ليس حدثاً إستثنائياً. الجيشُ قدَّمَ على مذبحِ المرفأ شهداءً وجرحى أيضاً. أن يقفَ الجيشُ أمامَ الموتِ لَهوَ واجبٌ من واجباته اليومية. شهداءُ الإنفجار هم أهلُه ورفاقُه وهو يبادلُهم أقلَّ ما يمكنُ أن يُقَدَّم لهم أعني التحيةَ الصادقة. الإستثنائيُّ في الحدث هو أن الجيشَ هو الوحيدُ الذي يبكي الناسَ فَتُصَدَّقُ دمعتُه. عَينا الجندي بحيرتان مسكونتانِ بزَبَدِ الوطن.

قائدُ الجيش مليءٌ بصمتٍ وغضبٍ خالِصَين. صمتُ الأحزان وغضبُ لبنان. من المرفأ وبعدَ شهرٍ على المأساة يعودُ الجيشُ الى مزاولةِ حبِّه للوطن. رغمَ كلِّ محاولاتِ تفخيخِ عشقِه لأهلِه أظهرَ الجيشُ أنه أقربُ الى النَّاسِ من أورِدَتِهِم. ينبضُ بنبضهِم ويخفقونَ له كأنهم في حضرةِ المرآة.

دقيقةُ صمتٍ بالقربِ من المكان. عِنْدَ الساعةِ السادسةِ والدقيقةِ السابعة كان الصمت أكثرَ عصفاً من النيترات. الأمكنةُ المحاذية للمأساة هي أيضاً في قلبِ المأساة. صمتٌ لدقيقةٍ يختزلُ صمتَ الناس الذي دام عقوداً. رافقَهم صمتُ جيشهم الذي قاتلَ الإرهاب بشراسة. من رأس بعلبك افتتحَ قائدُ الجيشِ اليومَ نُصُباً وحديقة. الأولى لتصيرَ مزاراً يصلّي ارتقاءَ الجلجلةِ الى رتبة وفاء. الثانيةُ لتصيرَ شقائقُ النعمانِ وطناً. لم تكن المراسمُ قربَ بحرِ بيروتَ صاخبة. حتى الموجُ خفَّفَ من تلاطُمِه على إهراءاتِ القمح. الموجُ صار مُنصِتاً للرابع من آب. زَبَدُهُ حليبُ الشهادةِ وشرابُ أبديةٍ أزفّت قبل أوانها. على بعدِ أمتارٍ قليلةٍ ذوو الشهداء وبعضُ من كَوَتهم المأساةُ إعاقةً لأحبائهم، كلُّهُم لبسوا قمصانَ الصمتِ وصلّوا.

في أرجاءِ المدينةِ المنكوبةِ نبض. المرقّطُ في المرفأ يحتضنُ النكبةَ بيدينِ عاريتين. أوكِلتْ اليه مهمةُ احتضانِ ما تبقَّى لنا من كرامةٍ في وطنٍ أبكانا وأدمانا. احتضنَ الجيشُ كرامتَنا وحوّلها إلى إهراءاتٍ كَدَّسنا فيها قمحَ أحلامنا. أوكَلنا للجيشِ أن يعجنَها ويخبزَها ويخرجَها رغيفاً لمستقبلِ أولادنا. الجيشُ الذي نظّمَ وكنّسَ ورفعَ الأنقاضَ ووزَّعَ الإعانات وقدّمَ الماءَ والدواءَ والإباء. عاشَ جنودُه شهراً من الركام والغبار. شاهدوا العجزةَ يبكون والنساءَ يثرنَ والشبابَ يرفسونَ اليأسَ بمكانسهم. واكبَهُم في وجعِهم وثورتِهم وحدادِهِم وبكى معهم أحباءهم. كلُّ ذلك مختَصَراً بوقفةِ قائدٍ يعرِفُ عمقَ التنهدِ ويقرأُ الحناجرَ الغاضبة. نُصُب شهداء المرفأ واكبَ تحيةَ الجيشِ ولامسَ أرواحاً مجنَّحَةً في طريقها الميمون إلى حيثُ رياضٍ لم ترها عينٌ ولم تسمع بها أُذن.

على مقربةٍ من تحيةِ قائدِ الجيش على رمادِ مرفأِ بيروتَ ديانتانِ سماويتانِ تتهامسان. تتبادلانِ كتابيهما بنفسَجَتَين منزَلتَين. بدلَ أن يعتنقهما الشهداءُ قرّرَتا أن تعتنقا ديانةَ الشهداء. دينُ الشهداء لبنان. من وسطِ بيروت دقّتْ أجراسُ الكنائس وارتفعت أذانُ المساجد إيذاناً بالرحلة رقم ٤ آب التي حطّتْ رحالها بين الأنبياء والرسل. على دينِ محمد وعلى دين المسيح رسمتِ النُّعوشُ وطناً اختزَلَته تحيةُ الجيش. جيشٌ أحبَّ الله ركوعاً ووضوءاً، فاتحةً وأبانا وزمزماً ومياهاً مصلّاة. وحدُهُم الذين كَفَروا ببلدنا كفروا بالله. صلبوه على مدى عقودٍ وطعنوه وعندما عطشَ الى الإصلاحِ طَعَنوهُ بِحَربة. من المرفأ وبعدَ شهرٍ تُخرِجُ تحيةُ الجيشِ وقائده الحَربَةَ وتطبعُ على جرحنا قبلة.

زخّات من رصاص منضَبِط رافقتْ مواكبَ الأبطال. في المرفأ أنشدتِ البنادقُ معزوفةَ السفر. لم يكن أزيزُ الرصاصِ يوماً أكثرَ عزّةً وكِبَراً. أن تطلقَ النارَ في الهواء هو أن تقتلَ فلولَ الموتِ بأزيزِ الحياة. أجملُ وأرقى مهمةٍ للطلقِ الناري هو أن يُميتَ الموتَ ويُحيي الحياة. مشهدٌ اختصره قائدُ الجيش وجنودُه الذين يقتلونَ يأسَنا كلَّ يومٍ ويرمِّمون أحلامنا. رَحِمَنا اللهُ مع شهدائنا فعلينا نحن الأحياءُ أيضاً تجوزُ الرحمةُ يا الله.