"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح

كل النصائح التي يتلقاها رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري في العدول عن قرار الإعتذار المتّخذ لديه واستكمال مسار تأليف الحكومة، يتجاهلها أو يتصرّف تجاهها كشروط غير ملزمة. يبدو أن رئيس تيّار "المستقبل"، قد عزم على المضي قدماً في اتجاه الإعتذار، وقد أبلغ إلى رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي خياره خلال اللقاء الذي جمعهما سوياً بعيداً عن الإعلام قبل ثلاثة أيام في عين التينة. أمّا بري، فقد اشترط على الحريري إلتزام تنفيذ عدة خطوات قبل الشروع في قراره، من بينها رسم مسار الإعتذار، ونسج أفكار حول الخيارات البديلة ورؤيته لها، ومن ثم العودة إليه بعد حين!

يعني ذلك أن رئيس المجلس قد تدخل ثانيةً لكبح الحريري عن الإعتذار، أو تشذيب خطوة اعتذاره أو تأخيرها قليلاً، إفساحاً في المجال أمام مزيدٍ من النقاشات أو البحث في خطوات ومخارج، تُسفر عن تفريغ انعكاسات أي خطوة مماثلة من مضامينها السلبية. ما يُمكن الجزم به لغاية الآن أن الجهود لوضع خارطة طريق ما بعد الإعتذار قد انطلقت، على أن تظهر "المسودّة الأولى" بعد أيام، والإعتقاد السائد أن تسبق عيد الأضحى المبارك، على أن يبلغ التنفيذ مداه خلال مدّة وجيزة، وهذا المسار يفسّر ما ألمح إليه السيد حسن نصرالله خلال خطابه الأخير.

يتوجّس برّي من المسار الذي بلغته أمور التأليف. عين التينة تُلقي باللوم والمسؤولية في إحباط المساعي والجهود على قصر بعبدا + البيّاضة. ثمة انزعاج كبير في مقر الرئاسة الثانية من الصورة التي ظهرت عليها وكأنها منزوعة أو فاقدة للقدرة على إنتاج حلّ، وسط نمو أعتقاد بأن "الثنائي المسيحي" كان من بين أهدافه تقصّد عرقلة حلول عين التينة وإسقاط أي مبادرات تُعد هي مصدرها لإظهارها بمظهر العاجزة، بالتوازي مع إظهار عجز سعد الحريري عن التأليف، وعليه، فإن مقر الرئاسة الثانية يُبيّت أمراً ما إلى القصر، أي حين يغدو اعتذار الحريري أمراً واقعاً، وهذا تفسيره الأولي بأننا مقبلون على الدخول في مواجهة قاسية بقواعد إشتباك مفتوحة بين الطرفين، سيتحول فيها "حزب الله" إلى متفرّج، في ظل عجزه على "ضبط شطحات" حلفائه!

أساساً، رسم برّي خطاً بيانياً أمام الحريري: الإعتذار تُقابله خريطة طريق. الخريطة بالنسبة إلى برّي تبدأ من إقبال الحريري على تسمية خليفة له كي يقبل رئيس المجلس في تخريج اعتذاره ونزع انعكاساته، وما دون ذلك فباطل. لكن ذلك لا يعني بتاتاً نهاية المشكلة. إقدام الحريري على تسمية شخصية من قبله تعني استمرار الأزمة وبنفس القواعد، لكون من سيسميه سيلتزم بمرجعية بيت الوسط وثوابتها السابقة في التأليف ولن يحيد عنها بينما المطلوب اليوم تحرير كامل مسار التأليف من الإرتهان لأي أحد، خارجي كان أم داخلي. ثم، من الضامن في حال مضى الحريري نحو الإعتذار وسمّى بديلاً عنه بأن يكون ذلك خياراً ملزماً لرئيس الجمهورية أو لرئيس "التيار الوطني الحرّ" للتعاون مع شخص سيُستقبل بداية في "إسقاط الصبغة الزرقاء" عليه، وسيُعتبر امتداداً للحريري، وأن الأخير ما زال موجوداً بل مفاوضاً من الخلف، وعندها سيتحول قصر بعبدا إلى مفاوضة الوكيل لا الأصيل، في ظلّ ما يعنيه ذلك من تعقيدات أشدّ وأصعب من الراهنة، تماماً كما حدث خلال تكليف السفير مصطفى أديب.

وفي الحديث عن أديب، فإن كافة المؤشرات التي توفّرت حديثاً، تشير إلى غياب الرغبة لديه في قبول التكليف مرّة جديدة. وفي آخر استمزاج رأي تولّت استبيانه جهة رسمية ألمانية بناء على طلب من طرف "خارجي" حليف، مترافقاً مع مبادرات داخلية بهذا الصدد، بلغ إليهم جميعاً بأن الرجل "مرتاح في مكان تواجده ولا يطمح إلى المزيد"، لذا صُرف النظر عنه. في المقابل، سُرّب أن النائب نجيب ميقاتي مستعدٌ لتولّي المهمة.. أحد "الخبثاء" في السياسة ربط بين التسريب وبين علاقة الحريري المباشرة! فالرئيس المكلّف لديه مصلحة في تسمية ميقاتي لعزله عن إمكانية الترشّح للإنتخابات النيابية، وبالتالي، خلوّ الساحة السُنيّة الشمالية إلى الحريري الباحث عن التعويض، أملاً في إحداث فرق عبر إنجاز، وقد يكون طامحاً إلى إنجاز إتفاق يُصار خلاله إلى تجيير قواعد ميقاتي الشعبية إليه. لكن المعلومات، تشير إلى عدم رغبة رئيس تيّار "العزم" في التخلّي عن مقعده النيابي، طالما أنه ومن شروط الوافد الجديد إلى السراي ألا يشارك في الإنتخابات، إلى جانب قضايا أخرى "مانعة"... على هذا النحو ومتى أن الحريري لم يعثر على بديل، فإن إعلانه الإعتذار سيطول ربطاً بالتفاهم مع بري، بالإضافة إلى أنه غير راغب أصلاً في التخريجة، إنما يُدفع إليها. وفي قرارة نفسه لا نيّة لديه لتسمية أحد، ومشكلته أنه مأزوم ومرتبط بالتزامات لا قدرة لديه على الخروج منها.

هذا يقود عملياً إلى تقديم العامل الخارجي على الداخلي، وفيما لو تلقى الحريري إشارةً من الخارج، أقله من الإجتماع الثلاثي الأميركي ـ الفرنسي ـ السعودي في إيطاليا، لكان أقبل وأقدم على التأليف من دون تفكير. أما الآن و كما رشح عن الإجتماع، فالسعودية ماضية في تطويق الحريري، فيما باريس لم تستحصل من الإجتماع سوى على تنازل وحيد من الرياض، تمثّل بقبول جلوسها على طاولة تبحث الشأن اللبناني، لكن بشرط ألا يكون لها موقف مباشر يتعلق بصلب الأزمة. هذه النتيجة، يبدو أنها أُبلغت إلى المصريين عن طريق الفرنسيين، وهو ما أدى إلى كبح القاهرة لاحتمال توسّعها السياسي في الداخل اللبناني وإبقاء حضورها ضمن منطقة الوعظ والتنسيق، وصُرف النظر مبدئياً عن دعوة الحريري لزيارة القاهرة خشية من استفزاز الرياض، وقد استُعيض عن كل ذلك بالإستفادة من زيارة رئيس الوزراء القطري "العائلية" إلى بيروت والذي بدا أقرب إلى وسيط عربي منه إلى زائر رسمي قطري، بدليل "حصر" الزيارة بنقل الرسائل التي نتجت عن اجتماع جنوب إيطاليا الثلاثي وأخرى حيال "أزمة التأليف"، وعدم لقائه برئيس حكومة تصريف الأعمال يجسد هذه الفكرة ولكون دياب لا يمتلك صفة في تلك الأزمة. وفي القراءة الأولية، فإن الحضور القطري الذي يغلب عليه الطابع التنسيقي كان أقرب إلى تكليف من الدول المشاركة في الإجتماع، وكبديل عن الحضور الرسمي السعودي المحتجب عن زيارة لبنان كي لا تُفسر أو تُقرأ أي خطوة من قبيل منح التغطية السياسية لشخص أو لتأليف حكومة، وكي لا تفسّر على أنها تبدلاً طرأ على السياسة السعودية...

في الخلاصة: "لا حكومة".. و الخيار الراهن "استنهاض" حكومة تصريف الأعمال وفق تفاهمات محدّدة.