Beirut
16°
|
Homepage
هذا انا جورج نادر.. الوطن المشلّع والجيش " المقسوم " - الحلقة السادسة
المصدر: ليبانون ديبايت | الاربعاء 20 كانون الثاني 2016 - 9:20

ليبانون ديبايت - الحلقة السادسة من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر

حزنتُ جداً لما آلت إليه الحال في الجيش، كنت أختلي بنفسي مفكّراً، ملازم لم يمضِ على تخرّجه تسعة اشهر، يرى أمام ناظريه وحدات جيشه الذي حلَم به قوياً مسيطراً، تتقسّم دينياً ومذهبياً على جغرافيا معقّدة، يتنازع السيطرة عليها كل سلاح غير شرعي وخارج سلطة الدولة. كنت اسمع الأخبار المسيئة والمؤلمة: عسكريون يتركون وحداتهم العضوية ويلتحقون بوحدات أخرى تناسب مناطق سكنهم. نصف عديد فصيلتي تقريباً كان من المسلمين، سنة وشيعة ( آسف على هذا التعبير لكن يقتضي توضيح الوقائع ) لا أزال أذكر بعضهم: الرقيب عمر فرحات ( أصبح حالياً ضابطاً برتبة رائد على ما أعتقد ) الرقيب محمد الخالد، الجنود: علي سعيفان، على أبو حويلي، خلدون السحمراني، عمر عبد الحميد، محمد عوض، عادل علالي وآخرون لا تحضرني أسماؤهم، والعريف المجنّد إبراهيم قصقص. ومع أن مجندي خدمة العلم في اغلب قطع الجيش فرّوا من الخدمة، ولم يُلاحَقوا قانونياً، بقي مجندان في فصيلتي: أنطوان الشامي وإبراهيم قصقص اللذان لا يزالان، على تواصل دائم معي حتى اليوم بالإضافة إلى عدة عناصر من تلك الفصيلة المميّزة والذين أحببتهم كأولادي.

كنت في داخلي أرفض هذا الواقع التقسيمي، وأتألّم عندما أرى العسكريين المسلمين يقضون فترات إجازاتهم في المركز كونهم لا يستطيعون زيارة أهاليهم بسبب إنتشار الحواجز المسلّحة في كل المناطق، فألزمت العسكريين المسيحيين الذين يقطنون "الشرقية" بإصطحاب رفاقهم المسلمين إلى بيوتهم "لتغيير الجو" ومشاركتهم الطعام البيتي والإستحمام وغسيل الثياب.. وقضاء فترة المأذونية، وهكذا كان: بقيت تلك الفصيلة الصغيرة بعناصرها الخمس وعشرون، أنموذجاً للجيش الذي طالما حلمت به.


وللدلالة على متانة العلاقة وقوة الإلتزام بين عناصر الفصيلة، أروي ما حصل مع أحد الجنود ويدعى " سيمون لحود ":
خلال رمي أحد مراكز المسلحين بالمصفّحة، إرتكب خطأً كاد أن يعطّل مدفع المصفّحة، فصرخت به، ووجّهت له كلاماً نابياً ( للأسف لم أستطع ضبط أعصا بي آنذاك ) وأرسلته ليلتحق بمجموعة الإحتياط المتمركزة تحت جسر " شارل حلو " كعقوبة له. بعد عشر دقائق ناداني رتيب الفصيلة : "سيدنا.. عجّل.. لحود رح يموت ".

كان الجندي لحود يبكي ويشهق بنفسٍ متقطّع كأنه الحشرجة، لأنه شعر بالمهانة، ليس للكلام الذي وجّهته له، بل كونه سيكون "بلا قيمي تحت الجسر" فهو وُجِد ليقاتل مع رفاقه لا "ليختبىء كالفأر" بحسب تعبيره.

أحد العسكريين ويدعى "ميلاد الحاصباني" من دير ميماس في الجنوب المحتلّ من قبل العدو الإسرائيلي، لم يكن ليذهب إلى اي مكان آخر، فلا أقرباء له ولا أصدقاء في المنطقة، فـ "منحته" مأذونية شهر إلى بلدته حيث ذهب إليها بالباخرة من مرفأ بيروت وحتى مرفأ الجية، ومن ثم كان أحد الأقرباء يوصله إلى ذويه ومن ثم يعيده بالطريقة ذاتها (لم يكن لي الحق بمنح المأذونيات كوني آمر فصيلة، وفترة الشهر يمنحها قائد الكتيبة وحده، لكنني تحمّلت مسؤولية غياب الجندي لما كان يعاني من بعده عن أهله وإنقطاع الإتصال معهم).

يخطرني طرفةً حصلت معي في تلك الفترة : كنا، في بناية "فتّال" عناصر الفصيلة وأنا نتسامر في إحدى الليالي الهادئة نسبياً، وإذا بأحدهم، كهلَ خمسيني يلبس بزة الجيش الفرنسي القديمة بلون الكاكي والأزرار المعدنية يدخل..، فوضعت مسدّسي على وضع النار تحسّباً، لكن دخول الجندي "داني الفغالي"، الخفير المولج بالحراسة، وراء الرجل مشيراً بيده على أنه سكران ومختلَ عقلياً، أعاد إلي الطمأنينة.

إنه " السرجنت بيزنط " كما يسمّي نفسه، حاملاً ماسورة قياس وقلماً ودفتر، فقاس أحد العسكريين وقرأ : الطول 178 سم.
- شو اسمك ؟
- جوزيف الهاشم، سجّل الإسم: جوزيف الهاشم، والطول: 178 سم
- فسأله أحد العسكريين: "شو بتشتغل يا عمّ؟
- "نجّار توابيت، ما بدّي أتفاجأ فيكن بكرا"
وإنفجر بعض العسكريين بالضحك بينما وجم الآخرون عابسين "لانّه يفوّل عليهم" أي ينذرهم بالشؤم، لكنّهم أمضوا تلك الليلة وال" سرجنت بيزنط " يقصّ عليهم أخبار طرائفه وجولاته العالمية.

أحب أن أروي حادثة إنسانية حصلت مع ذوي أحد العسكريين الأحداث:
من عناصر فصيلتي في الأسواق التجارية الجندي جورج القسيس من بلدة "رحبة" العكّارية، "كبّر" هويته ليتسنّى له التطوع في الجيش، كان طفلاً بالشكل والصوت، إنما كان شجاعاً مندفعاً إلى حدود التهوّر. عند إندلاع معارك الأسواق التجارية لم يكن يتعدّى الستة عشر عاماً (عمره الفعلي وليس بحسب بطاقته العسكرية " المكبّرة " ثلاث أو أربع سنوات). في أحد الأيام الهادئة قتالياً فوجئت بوالده ووالدته يزورانني في المركز المتقدّم. والدته مريضة بحاجة إلى إجراء عملية جراحية مستعجلة، والوالد فقير الحال، وإبنها البكر جورج لم يتقدّم بطلب منح والديه بطاقة خدمات إجتماعية تخوّلهما الإستشفاء والطبابة على نفقة الجيش، مع أن ذلك حقَّ له.
- " ليش ما عملت طلب ل أهلك؟ " سألته بغضب ..
- "بستحي" أجابني بصوتِ خافت خجول..
على الفور نظّمت له الطلب ووقّعته من آمر السرية فقائد الكتيبة، وباليد إلى مكتب قائد اللواء، ثم في اليوم التالي كان على طاولة الرائد" سمير الشويري " في قيادة الجيش - مديرية الأفراد.
- يا ملازم ، ما بيحقلك تاخد الطلب باليد هيدي عمليي إداريي طويلي مش ع زوقك "
- "صحيح سيدي لكن والدة الجندي بحالة صحية حرجة ولا تحتمل التأجيل"
نظر الرائد شويري ( الله يوجّهلو الخير ) بتمعّن وقال: " لأنك بتحبّ عسكريتك رح امضيلك البطاقا مع انو ما بيحقّلك ".

المُحزِن، انه خلال خمسة أعوام لم أرى هذا الجندي إذ شُكِّلت إلى فوج المغاوير في مطلع العام 1985،
تحديداً 12/1/ 1985، و في العام 1990 خلال المعارك بين الجيش وميليشيا القوات اللبنانية، أخبرني أحدهم بإستشهاد الرقيب أول جورج القسيس وعسكريين إثنين من فصيلتي كنت أحبّهما كثيراً: ميشال حنّا، والياس خير الله الذي كان رفاقه يلقّبونه "الببّور"، حزنت كثيراً لخسارة اولئك الشباب الشجعان، لكن الحياة العسكرية، خصوصاً في اثناء القتال، تجعل من كل جندي مشروع شهيد.
تشكيلي إلى فوج المغاوير كان "تأديبياَ"، ولماذا ؟
لأنني أوقفت على الحاجز في منطقة "الرينغ" موكب الرئيس كامل الأسعد.. ونعم التأديب..

(في الحلقة القادمة الملازم نادر في فوج المغاوير والمغوار الذي لا يموت)
انضم الى قناة "Spot Shot by Lebanon Debate" على يوتيوب الان، اضغط هنا
الاكثر قراءة
توضيحٌ سعودي بشأن الخمور والمنتجعات السياحية! 9 بعد تنبيه فرانك... 3 زلازل تضرب دول في يوم واحد! 5 هل يخسر اللبنانيون دولاراتهم المخبّأة في منازلهم.. أيضاً؟ 1
بشأن "المظاهر المسلحة"... بيانٌ من الجماعة الإسلامية 10 انتشال جثة... البحث مستمر عن مفقودَين في الرملة البيضاء 6 التيار أصبح نصف "القوات"! 2
"جاهد حتى الرمق الأخير"... أمل تنعي عاطف عون! 11 وسط حشود من انصار حسن مراد... مهرجان لِحزب "البعث" في الخيارة! 7 القوات اللبنانية: لبيك يا جنوب... تسريب خطير عن لسان نائب قواتي! 3
قتيل و3 جرحى في حادث على طريق ضهر البيدر! 12 "معجزةٌ عظيمة"... أول ظهور لـ بن غفير بعد الحادث (فيديو) 8 طلبٌ "هام" من التحكم المروري إلى المواطنين! 4
حمل تطبيق الهاتف المحمول النشرة الإلكترونيّة تواصلوا معنا عبر