مختارات

زاهي وهبة

زاهي وهبة

الحياة
السبت 16 نيسان 2016 - 07:12 الحياة
زاهي وهبة

زاهي وهبة

الحياة

حبر وملح "المُرسِل والمتلقي"

placeholder

مررتُ سريعاً، في مقالات سابقة، على علاقة المُرسِل والمتلقي وما طرأ عليها من مستجدات بفعل تطور التكنولوجيا الذكية التي خلطت الأوراق وحوّلتنا جميعاً مرسِلين ومتلقين في آن واحد. بات من الصعب على الكاتب، أي كاتب، البقاء بعيداً من الميديا الحديثة الآخذة في الاتساع، المتحولة مصدراً أساسياً للمعلومات على اختلاف أنواعها. كل ما قيل ويُقال عن عزلة الكاتب وضرورتها صحيح، لكنها باتت عزلةً شبهَ مستحيلة أو ضرباً من الخيال. يستطيع الكاتب الاختلاء بنفسه وقلمه أو «لابتوبه» لحظةَ الكتابة، يُولَد النصُّ كأي جنين آخر بعيداً من أعين الناس، لكن ما قبل الولادة وما بعدها لا بد للكاتب من البقاء على صلة بما يدور من حوله، ولا صلةَ اليومَ أقوى من وسائل التواصل الحديثة التي تجعلنا على تماس مع العالم لحظةً بلحظة.

سابقاً كان الكاتب يكتب نصّه في «استقلالية» تامة ثم يغدو النصّ كتاباً بين أيدي قرائه مواجهاً قدره ومصيره. الكاتب يكتب وحيداً والقارئ يقرأ وحيداً، لم يكن متاحاً للقراء التعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم في ما قرأوا إلا من خلال فسحات قليلة: بريد القرّاء في جريدة أو مجلة، ندوة هنا أو هناك، لقاء عابر مع شاعر أو روائي في حفلة توقيع، وكان الناقد بمثابة «وسيط» بينهما. اليوم اختلفت الحال تماماً، بات في امكان القارئ أياً كان وأنّى كان إبداء رأيه وإيصاله فوراً الى الكاتب. تلك الملاحظات والأسطر التي كنّا نخطُّها بقلمِ الرصاص على صفحاتِ كتابٍ نطالعه، صرنا ندونها على «تويتر» و «فايسبوك» وسواها من «منابر افتراضية» متاحة لجميع الناس.

مهما بلغت حصانة الكاتب ومناعته تجاه ما يُكتَبُ وما يستدعيه نصُّه من آراء وتعليقات وملاحظات تصل أحياناً حدَّ التناص، لا يمكن له إغفاله وعدم التفاعل معه وأَخْذِ ما هو جدير منه في الاعتبار. في اعتقادنا، هذا أمرٌ لا يتناقض مع حاجة الكاتب للعزلة والابتعاد من الصخب والضوضاء. العزلة «المكانية» أو الجغرافية متاحة كل حين، لكن هل من الممكن فعلاً اعتزال ما يدور خارجاً؟ صار الأمر أكثر صعوبة، نحتاج رياضة روحية ونفسية لجعل لحظة الكتابة لحظةً مُصفَّاة من مؤثرات تعكِّرها وتشوِّش عليها، ومحصَّنة تجاه الوقوع في فخاخ وَهْمِ وهَمِّ ارضاءِ الجميع.

هل الأمر بهذه السهولة؟ حين تغمض عينيك لا يعني أن الضوء لم يعد موجوداً، كذلك حال المؤلف مع قرَّائه ومريديه الذين صار حضورهم أكثر رسوخاً وتأثيراً من ذي قبل. يُقال إن مفهوم السيادة الوطنية والحدود الجغرافية للدول لم يعد له الأهمية والقيمة السابقتين بفعل عولمةٍ أزالت الكثير من الحواجز والجدران، الأمر نفسه يَصحُّ في الأفراد. الخصوصية، التي هي نوع من «السيادة» الشخصية، تتقلص تباعاً جاعلة من العزلة مهمة شاقة وبعيدة المنال.

رُبَّ قائل ليس الأمر كما تصف، يستطيع المرء، كاتباً أو سواه، النأي عن الناس في بيته أو مكتبه، وإقفال هاتفه الجوال و «الواي فاي»، والتفرغ للكتابة بعيداً من صخب العالمين الواقعي والافتراضي. ليت الأمر على هذا النحو. كما أسلفنا، حين نقفل الأبواب والنوافذ يظل العالم موجوداً، وما استجد في هذا العالم بات جزءاً من تكويننا الفكري والنفسي، الانفصال الروحي عن هذا العالم لا يتحقق بغير الموت. ثمة علاقة جديدة تترسخ بين المُرسِل والمتلقي، ليس فقط لأن المتلقي صار مُرسِلاً بدوره، وبات في إمكانه إبداء رأيه مباشرةً في ما أُرسِل اليه، بل أيضاً وهذا الأهم، لأن جوهر العلاقة تغير، لا بين المُرسِل والمتلقي وحدهما، بل بين الناس أجمعين.

عالم جديد يستولد علاقات جديدة ويفرض تحديات جديدة. صحيح لكل كاتب طقوسه و «بيئته الحاضنة» للحظةِ ولادةِ نصه، في إمكانه جعل تلك اللحظة بعيدة قدر الممكن عن تأثير الآخر فيها، لكن من المستحيل محو أثر الآخر كلياً، خصوصاً أنه بات قريباً الى هذا الحد، وشريكاً فعلياً في الشاردة والواردة. ربما تبدو شراكة الصورة أكثر وضوحاً في ما نرمي اليه، مواقع كـ «أنستغرام» و «سناب شات» مثلاً، تجعلنا نتشارك يومياتنا لحظةً لحظة، صورةً صورة. كيف يتجلى هذا الواقع في النصّ؟ نحاول الإجابة لاحقاً، لكن من المؤكد أنه يفعل وبقوة.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة