بقلم د.نسيم خوري
لندخل معاً الى لبنان الفساد: غادة عيد تلميذتي الجامعية البارعة المقاطعة والصارخة والإعلامية اللافتة مذ كانت في الفنار فوق مقاعد الجامعة تكره الفساد وتفضحه وكأنّها تفتح تلك الملفّات منذ ما قبل الميلاد. ميلاد لبنان. تترك شاشة بسمتها جوكوندية محيّرة نحو شاشة الM.T.V. أرتوذكسية البسمة اللبنانيّة في كلّ اتجاه وإتّجاه. تترك دون أن تنسى سيفاً مسلولاً في نبرتها، بعدما لحقها الكلّ من الزملاء. صار معظم زملاء غادة يغريهم الكلام في الفساد حتّى ولو كان من قبيل العتب وكسب الجمهور والإعلانات.
عندما بدأت رحلتها في فضح الفساد، إجتمعنا ثلاثة: غادة ومريم البسّام وزوجتي المحلّلة النفسية الدكتورة مي إبنة النائب المرحوم فريد جبران أحد مؤسّسي الحزب الإشتراكي الى جانب المعلّم كمال جنبلاط وكاتب هذه السطور وكان معنا على الهاتف تحسين خيّاط من الخليج. وبالمناسبة قد يسأل أحدهم وما يعنيك أنت في الموضوع؟ الجواب: كانت غادة الصغيرة المشاكسة تفّاحة نيوتن الأولى، تذكّرني بروح النائب المناضل فريد جبران الذي فتّت حياته دفاعاً عن الفقراء والمعوزين ومقارعة الفاسدين وغادر لبنان مقهوراً وحاقداً على المافيات التي لا تكلّ من بلع المواطنين والوطن.
كان غرض الإجتماع تقييم الحلقات الأولى التي تمّ بثّها على النيو تي في. القصة بدأت بأن تحدّت غادة المجتمعين والجامعة والدنيا وشغلت وبحضوري وعلمي كباراً في الجمهورية على مستوى رئيسي جمهورية وعمادين أعني إميل لحود وميشال سليمان والكثير من المسؤولين السياسيين والأمنيين والقضائيين والتجار كي لا نعدّ معظم دوائر لبنان. وكادت تدخل السجن موثوقة اليدين لكنها أبت إلاّ المثول حرّة اليدين والضمير أمام أحد القضاة. وإنقسم الناس حول برنامجها وصوتها وقلّة صبرها على كلام بعض الضيوف الفارغ الذي لا يقول شيئاً، لكنّها للإنصاف الأخلاقي والإعلامي والوطني إستحقّت لقب الرائدة في هذا الميدان المظلم والخطير. كانت تقاطع؟ نعم لكثرة ما رمى الناس المظلومون بين يديها من فضائح ووثائق وكوارث تتجاوز العقول.
ليس هذا مجالنا كلّه الآن. التفاصيل والأسرار والقصص والفضائح والأسماء الكبيرة لا ولن تنتهي نشهد آثارها اليوم على شاشة ال N.T.V. في حلقات من مسلسل من عمر لبنان وعمر غادة الإعلامي، وهو جاذب قوّي للجمهور كما يلحظ. مسلسل كتبته وأعدّته العزيزة غادة التي راحت نحو" علم وخبر" في شاشتها الجديدة، وتعليقات الجمهور على ما فعلت شاهدة على صدقيّة هذه المرأة الجريئة، وتحمل نوعاً من الإعتذار وربّما الندم اللاواعي لها حيث يعترف الجميع بأنّها تعلق بذاكرتهم.
كنت ضيفها لمرّتين في العام وكان يسأل من حولي سؤآلاً واحداً: من يحمي غادة عيد؟ كان جوابي جرأتها وكفى.
الى أين من هنا؟
لندخل الآن الى غابةٍ الشاشات في لبنان خلال العامين الفائتين. ماذا نجد غير المغاور والملفّات التي جعلت من صديقي وجاري في القرى الجنوبية النائية وائل أبو فاعور نشاطاً ملحوظاً حوّل الخلوات الى مكبّرات صوت ضجّ بها العالم الى محاولات جدّية لتفكيك هذه المنظومة اللبنانية الخشبيّة المستنقعة في الفساد بما جعل الماء وحلاً يخفي ضهور الحيتان التقليديين والحديثي النعمة مذ كانوا يعقدون الصفقات مع الحيتان السورية. كان المطلوب التبوء المناصب العالية أمران: حني الرؤوس وقول النعم بهزّ الأعناق أكثر نحو الأسفل لربّما تلامس البلاط.
وصلت، من هنا، حسب قول صديقي الكفيري المقيم في الشارقة الى ما يلي:
ملفّ الكهرباء، ملف مياه الشرب،ملفّ بنك المدينة والبنك اللبناني الكندي، ملفّ الحوض الرابع، ملفّ أزلام السياسيين في كازينو لبنان ،ملفّ التهريب والهدر والبيانات الجمركية المزوّرة، ملفّ العملاء للعدو الإسرائيلي، ملفّ أمن المطار وتجهيزاته، ملف أمن الدولة، ملف ميشال سماحة، ملف شبكات الإنترنت غير الشرعي، ملف الفساد في قوى الأمن الداخلي ضبّاطاً وأفراداً، ملف النفايات الكارثي ومعه وفي أساسه ملف سوكلين،ملف الإتجار بالبشر، ملفّ الدعارة،ملفّ المخيمات، ملف النازحين السوريين، ملف التفتيش المركزي، ملف شركات المياه المعدنية غير المرخّصة، ملفّ الكسّارات، ملفّ المطاعم والمأكولات الفاسدة ومضبوطات الغذاء الفاسد، ملفّ اللحوم الفاسدة المنتهية الصلاحية، ملفّ النفط، ملفّ الهيئة العليا للإغاثة،ملف البرغش والذباب الأزرق، ملف سلامة الأبنية والجسور، ملف أسعار الأدوية وفسادها، ملفّ صناعة المخدّرات، ملف تبييض الأموال، ملفّ العقارات والتخمينات العقارية، ملف الجامعة اللبنانية، ملف الإنتخابات البلدية وتصريح وزير الداخلية، ملف تلفزيون لبنان...ألخ.
ملف تلفزيون لبنان أوتلفزيونات لبنان؟
ماذا بقي من تلفزيون لبنان الرسمي بعدما تخلّت الدولة عن حقوقها في إمتلاك البث الفضائي الى القطاع الخاص في العام 1985 مع أنّ تلك الحقوق كان ملكاً رسمياً حتى نهاية ال2012. كان تلفزيون لبنان مخزناً لذاكرة لبنان والعرب ببرامجه المشرقة في الشرق، وسرعان ما نهب فتشظّى بين الطوائف والمذاهب وكاد ينساه المشاهدون.
ماذا كانت النتيجة ولبنان من ملف الى آخر من دون معالجة لأيّ ملف؟
إرباك وتبرير وتعمية هائلة في ردود فعل المسؤولين وطائفية لا حدود لها في حماية الفاسدين وطمس الحقائق مع التكرار المملّ للخطاب الرسمي:
- متابعة الملفّ حتّى النهاية
- نتعامل مع الملفّات بكلّ مسؤولية.
- سيتمّ رفع الغطاء عن كلّ الفاسدين
- إقامة دولة العدالة والقضاء على الفاسدين.
- عدم لفلفة الموضوع.
الى أين من هنا أيضاً؟
تترسّخ قناعة لدى الكثير من اللبنانيين أثناء متابعاتهم لأخبار السياسة في بلدهم أو في بلدان أشقّائهم العرب أنّهم أصحاب وطنٍ مميّز ومتميّز عمّا حوله، وله خصوصيّة وجدت له وفي رأسها الحريّة. تلك قناعة ما عادت تستقيم في ظلّ مناخ يسوده الكثير من حرية التعبير والإرتجالية والشتائم التي يمكن توليفها مع الفوضى والقليل النادر من الديمقراطية.
لن أمل مع القاريء في نزهة من التجنّي أو النقد الجارح، أوّلاً لأنّ مجرى هذا الحبر سيصبّ في العواصم التي تحترم القانون ويقيم في أحدها تحسين خيّاط، ولست بحاجةٍ لأن أقف دوماً متحيّزاً الى هذه التجارب الخليجية أو الغربية التي تجعل بعض الوجوه الجرداء تتبرّم من حولي وتنتقد موضوعيتي في عقد المقارنات الوطنية بين الأشقاء، وثانياً لأنّ تسلسل الأجيال من الشباب وتحرّكهم بين بيروت وعواصم العالم يولّد بالمقارنة أو يخرّج بالتجربة أعداداً هائلة منهم "سفراء" عفويين وطبيعيين من دون أن يقدّموا أوراق إعتمادهم لأحد سوى لعقولهم وإستنتاجاتهم وذكائهم وقدرتهم على التفريق بين ما يكابده أهلوهم في وطنهم الأمّ لبنان، وما ينعمون به من وفرة وإحترام ومثابرة وإهتمام ونتائج في البلدان الأخرى.
لست بحاجةٍ الى الجهود في الإقناع: يكفيك أن ترى غضب الأولاد والأحفاد الوافدين في عطلاتهم نحو بيروت من أصدقائهم وأقاربهم إذ يرون واحداً من هؤلاء يرمي ما بين يديه من نوافذ السيّارة أو يسير بعربته عكس السير أو لا يقف على إشارات السير الحمراء في الساحات والشوارع. لا يعود التوبيخ والتعييب والتعيير والنقد يتوقّف.
أمس، قال الشاب لصديقه: إنزلني هنا ما عدت قادراً على العيش بينكم في لبنان. سأختزل إقامتي وها أنا عائد نحو عملي في الخليج. كان السبب ركن صديقه لسيارته فوق الرصيف وأمام دكّانٍ لرجلٍ مسترزق هرم أهين عند إعتراضه وهو ينتظر في دكّانه منذ دهرٍ عتيق. يستطرد الشاب في التعبير عن ضيقه وعصبيته حيال تلك المفارقات الهائلة المتراكمة الى حدود الأساطير في حياة اللبنانيين.
قال أنّ أكثر ما يغيظه تلك الحفلات من الشتائم والفضائح والملفّات والتفسّخات التي تعصف بحياة مواطنيه في بلده الأم لبنان الذي كما قال لم تهبط فيه السقوف القانونية والسياسية والأخلاقية والإجتماعية وحسب، بل أنّ الجدران أنهالت وصرتم وكأنكم تعيشون في خيمة. ما أحلى الخيم. أنتم تعيشون في ساحة مفتوحة فالتة على العالم لكنّها أقسى بفوضاها وتعقيداتها من السجن الكبير. وعندما حاولت تفهّمه ومسايرته وتطييب خاطره وردود فعله، أجاب بحزم:
صدّقوني. أحاول أن أمكث الليل مع أهلي أمام شاشات التلفزة، ولكنّني لم أتمكن من هضم الخطب السياسة وبرامج الشاشات. ولأنني بتّ أخاف من الخروج في السهرات الليلية ومخاطرها المتنوعة كونها تبدأ وفقاً للتقويم اللبناني عند منتصف الليل، آليت على نفسي اللجوء باكراً الى النوم، وها إنّني مغادر غداً لأقضي ما تبقّى لي من إجازتي في دبي.
جاء كلام هذا المغترب القريب كما تفّاحة نيوتن الثانية فوق رأسي بعد تفاحة نيوتن التي رمتها غادة عيد. جرحتني بل فجّت رأسي ودفعتني لتلطيف ما سمعت والذي لا يمكن إختصاره في نص، وخصوصاً على مستوى الفوضى التي تعصف بغابةٍ من الشاشات التي تنافس السياسات وتسبقها وتطوّعها حتّى تمّحي الحدود والضوابط والقوانين والأنظمة.
لن أذهب الى الخليج مع صديقي في تقاعدي هنا، ولن أعقد مقارنةً بين شاشات الخليج وشاشات لبنان، ولكنني لو لو أخذت فرنسا "الأم الحنون" كما يحلو لبعض اللبنانيين تسميتها بعد، وحاولت المقارنة بين لبنان وفرنسا نشعر بالفارق الكبير بين البلدين. كيف؟
عندما فكّر الفرنسيون منذ عقود باستحداث قناة ثانية للتلفزيون الفرنسي الرسمي، تساءل الرأي العام الفرنسيّ: لماذا؟ فجاء جواب الدولة بأن اليابان لديها 11 قناة، وأميركا تسع، ونحن نملك واحدة. واعترض الفرنسيون على اتباع سياسة الآخرين معتبرين بأن لديهم ما يكفي من البرامج. وعندما استفتوا حول امكانية زيادة ساعات البث، قالوا: لا. الزيادة ليست ضرورية. وكانت نسبة القابلين ببرامج القناة الأولى 82 %. هكذا بقيت القناة الثانية وقتاً طويلاً قبل أن تجد جمهورها. بالمقابل، يعتبر انتقال لبنان بدءاً من العام 1985 حتى العام 1991 مستوعباً هذا العدد الهائل من المحطات التلفزيونية والمنابر المتعدّدة بدلاً من محطة واحدة هي "شركة تلفزيون لبنان"، وفي فترة زمنية قصيرة، دليلاً كبيراً على عظم الفوضى وضياع اللبنانيين في إختلاط الخاص بالعام في البحث عن مكامن الدفاع الوطني اللبناني.
الدكتور نسيم الخوري
سياسي وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News