كان الرئيس الأميركي باراك أوباما يعرف في لحظة اشتداد الحرب السورية وإعلاء سقوف حلفائه الإقليميين، أنّ إعادة عقارب الساعة الى الوراء صعب بالنسبة إليهم، كدول يعيش بعضها على ما تبقى من إرث معنوي او ديني او فتوحات تاريخية كالسعودية مثلا وتركيا ومعهما «إسرائيل» الطامحة للدولة «اليهودية» الموعودة بحساباتها.
كان يعرف أوباما انّ تلك البراغماتية التي تتحكم بالسلوك السياسي الأميركي وبعض الواقعية الخارجة عن العناد احياناً غير ممكن تقبلها ضمن سلوكيات الدول العربية والخليجية التي تستمدّ نصف «هالة» استقرارها من مهابة قراراتها. فكان يترقب أوباما اللحظة الصعبة تلك عندما يحين وقت إمساكه بيد حلفائه للتوجه نحو بقية اللاعبين الدوليين لاستنجاد الحلول بعد فشل حلفائه بتطبيق المهمة.
المهمة الأصعب كانت في إقناع حلفاء أوباما بضرورة التأقلم والتعايش مع فكرة أنّ الاتفاق النووي الإيراني بات ضرورة بالمنظور الأميركي الخارج عن الأحلام في لحظة الجدّ التي تطلب تنازلات للحفاظ على التوازن الدولي. واشنطن العاصمة الكبرى لا تجد أيّ حرج في إعادة النظر بما كانت قد انتهجته في هذه المرحلة أو تلك وفي لحظة وجدت فيها انّ القطيعة مع إيران ستدخل المنطقة بالمجهول، قررت التقدم نحوها لإيجاد حل نووي «ممكن» فاتحة ابواب اوروبا والعالم لإيران لتبادل العلاقات السليمة.
نجح أوباما في منطق «التمهيد» في جعل المستحيل «واقعاً»، فرفع عدد جلسات الحوار بين الغرب وإيران الى أقصاها ورفع معها درجة شدّ الأعصاب الى مستوى لا يستهان فيه حتى بات مبدأ تعاطي وزراء الغرب مع وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف أمراً طبيعياً ومقبولاً سهّل فكرة التعامل المستقبلي معها فنجح كيري وظريف بتمرير الاتفاق.
كان يعرف أوباما صعوبة هذا الأمر على «الإسرائيليين» والسعوديين فدعم عملية عسكرية في اليمن الى اقصى الحدود عشية توقيع الاتفاق مع طهران أيّ منذ حوالي سنة وستة أشهر وهو تاريخ التوقيع ايضاً آخذاً مشهد التحديات والبطولات السعودية الى مكان انقذ الرياض من الهالة التي احدثها الاتفاق معنوياً، وهي لا تزال منشغلة حتى اللحظة فيه بحرب ضروس باليمن، كانت تظن انها قادرة على «نثر الغبار» على الاتفاق فتنتصر فيها بسلاسة وتؤكد سيطرتها بالخليج وإذا بها تصبح «مستنقع الرياض» المؤلم.
أوباما لا يعارض حلفاءه ويقف اليوم الموقف نفسه ويرسم بالقلم نفسه «المشهد» ويحتاج الأدوات والمخارج نفسها، لكنه يكشف عن إبداع غير مسبوق وحنكة لا متناهية، فبالوقت الذي يحتاج فيه لما يأخذ فيه حلفاؤه خطوته الاستراتيجية بالتفاهم مع روسيا حول سورية والشرق الاوسط بالمنطق الساري بين الدول الكبرى يحمل بيده الأخرى كل ما يتطلب من اجل ذلك.
أوباما الذي يبدو متحضراً بشكل جيد لهذه اللحظة التي أعلن فيها قبوله الشراكة مع روسيا في الحل السوري وبوادر الإعلان عن تخطي مسألة إسقاط الرئيس السوري بشار الاسد بالمضي بالشراكة معه بالحل السياسي، يبدأ بتلقف تداعيات التفاهم بما يلزم الدول الإقليمية بتقبّله كأمر واقع حان وقته. واذا كان سقراط قد تجرّع السم دفعة واحدة لحظة إعدامه فانّ حلفاء أوباما بالمنطقة ارتضوا تجرّعه تدريجياً لإعدام مشاريعهم.
ترفع واشنطن بشكل مفاجئ ملف توقيع الكونغرس على قرار تأييد مقاضاة عائلات ضحايا اعتداءات 11 ايلول دولاً أجنبية ينتمي إليها المنفذون، وابرزهم السعودية الى الرأي العام كقضية كبرى وتنجح بمحطتي مجلس الشيوخ والنواب «الكونغرس» وتتوجه نحو البيت الأبيض، حيث لم يبقَ الا توقيع الرئيس الأميركي ليصبح الأمر «نافذاً»، فيخرج بشكل سلس موقف سعودي يؤيد ويرحب باتفاق الهدنة بين الأميركيين والروس في سورية. القلق السعودي من توقيع القرار اكبر من اي شيء ممكن البحث فيه معنوياً واستراتيجياً بالنسبة اليها بالمنطقة والعالم. كيف سيبدو المشهد اذا قرّر أوباما انه غير قادر على الاعتراض امام الكلّ في بلاده لإنقاذ السعودية؟ تدرك الرياض أهمية المشهد ودقته وتدرك أيضاً انّ استخدام الرئيس الأميركي صلاحياته لنقض القرار ورفع الفيتو «جميل كبير»، مقاضاة السعودية وتجريمها بتهمة دعم الإرهاب او ضمّها عناصر منه في الحادثة «الرمز» التي اسست لفكرة الإرهاب بالمنطقة، وهي 11 ايلول امر لا يستهان فيه لا أمنياً ولا سياسياً ولا معنوياً بالنسبة للرياض، وها هو الرئيس أوباما يعلن انه سيرفع الفيتو ضد هذا القرار وينقذ السعودية متحدياً كل مؤسسات البلاد!
توقيت أوباما الذكي في استخدام صلاحياته استجلب الموقف المتوقع سعودياً ليكمل رحلته نحو «إسرائيل» التي حصلت على أكبر وأضخم صفقة سلاح في التاريخ من الأميركيين منذ نشوئها، لكن بالواقع هي صفقة لمدة عشر سنوات استخدم أوباما مجدّداً أساليب الإبهار ليعلن عنها دفعة واحدة للإعلان امام دول الشرق الاوسط انّ «إسرائيل» اولى اولوياته وان واشنطن ستبقى دائماً الحضن الاكبر لها!
حرب اليمن غداة التوقيع النووي مع إيران قد تفتح الباب امام نوع آخر من الحروب، اذا كان ذلك ضرورياً لـ «إسرائيل» لتستوضح مصيرها بالتسويات. وهنا فإنّ تأييد واشنطن معركة عسكرية مع سورية قد تبدو ارضيتها في الجولان جاهزة و«سلاحها» ايضاً أمراً وارداً لترويض «إسرائيل». يبدع الرئيس الأميركي الاستثنائي بإدارته السياسية آخر ايام ولايته ويلوح بنيات وضع الملف الفلسطيني على الطاولة قبل الرحيل ليزيد صفحات إرثه صفحة…
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News