"ليبانون ديبايت":
كتب الدكتور بيار الخوري وهو كاتب اقتصادي ونائب رئيس الجامعة اللبنانية الالمانية مقالاً بعنوان:"الاقتصاد السياسي في ظل العهد الجديد"، جاء فيه:
لقد تطلبت ولادة العهد الجديد، عهد الرئيس العماد ميشال عون في لبنان ما يقارب السنتين والنصف على الاقل. اقول على الاقل لان مقاربات مختلفة لمعركة الرئيس للوصول الى سدة الرئاسة تختلف بحسب التاريخ المرجعي لهذه المعركة. فهل هي تاريخ عودة العماد عون الى لبنان عام ٢٠٠٥ ام هي تاريخ اخراجه بالقوة من قصر بعبدا عام ١٩٩٠ ام تعود ٣٣ عاما الى الوراء، على ما أشار إليه مؤخرا الوزير جبران باسيل.
أهمية هذه التواريخ المرجعية تكمن في علاقتها بسياق تراجع أهمية موقع رئاسة الجمهورية والقوى السياسية المسيحية ضمن النظام وصولا الى نفي العماد عون وسجن الدكتور جعجع.
لقد كتب الكثير عن اسباب تراجع دور المسيحيين في لبنان من دور السلاح الفلسطيني في تفجير التوازن اللبناني الدقيق الى خيارات المسيحيين الإقليمية والثمن الذي دفعوه بسببها وصولا الى صراعاتهم القاتلة في ثمانينيات القرن الماضي.
لكن التحليل المستند إلى الاقتصاد السياسي يبقى أكثر قدرة على فهم ظروف تراجع الدور المسيحي واحاطته حتى بالاسباب انفة الذكر.
فالمسيحيون الذين شكلوا صلة الوصل بين الشرق والغرب، والذين استفادوا من هروب الرساميل العربية في زمن الانقلابات العسكرية العربية، قد فقدوا دورهم الإقليمي مع انفتاح الغرب المباشر على دول الخليج النفطية وفشل ما سمي بالاشتراكية العربية في حقبة سبعينيات القرن الماضي.
أن الحرب الأهلية في لبنان التي بدأت على وقع هذا المعطى قد حطت أوزارها على وقع معطى الضعف السياسي المسيحي الذي كرس ضعف الدور الإقليمي.
لقد حل محل الاقتصاد السياسي لنظام ١٩٤٣ نظام سياسي-اقتصادي جديد يقوم على تحالف الطبقة العسكرية السورية المتحولة الى الثراء من خلال لبنان، مع ما تبقى من الطبقة السياسية التقليدية مطعمة بالوافدين الجدد، والتي كرست نفسها ضامنة للنظام الجديد، مع الراسمال الخليجي الساعي الى امتداد وتعظيم نفوذه الإقليمي، واخيرا مع قطاع مصرفي خرج من الحرب الأهلية على حافة الإفلاس واعاد بناء قوته من خلال التمويل الاسطوري الدين العام.
لقد انفرط عقد الاقتصاد السياسي لمرحلة ما بعد الحرب في لبنان بالصراع الذي انفجر بين طرفيه الاقليميين عام ٢٠٠٤ اثر صدور قرار مجلس الأمن ١٥٥٩ ثم اغتيال دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
منذ العام ٢٠٠٥ دخل اقتصاد لبنان في المجهول الذي قطعه ارتفاع اسعار النفط اواخر العقد المنصرم والذي أدى إلى فورة عقارية كبيرة ساعدت لبنان على الصمود حتى بدايات اندلاع الحرب في سوريا.
ومنذ بداية الفراغ الرئاسي قبل ما يزيد على العامين ازداد الوضع سوءا في ظل انعدام اي افق لمستقبل لبنان الاقتصادي والسياسي وارتهانه لنتائج حروب إقليمية ودولية في المنطقة بدا أن لا نهاية لها حيث تتناسل الحروب من أرحام بعضها البعض ولا تزال..
هل جاء انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة الجديدة مترافقا مع تغير جوهري في عناصر الازمة انفة الذكر؟ لا شيء يشي بذلك. قد يكون ميزان القوى الاقليمي المستجد قد ساعد في الاستفادة من فرصة سانحة في لحظة ملائمة لاعادة احياء الامل بلبنان ولكن الظروف الاقتصادية والسياسية لا زالت تنحدر الى الاسوأ.
والسؤال الهام هنا: ما هي مرتكزات الاقتصاد السياسي في ظل العهد الجديد، ان وجدت؟ وهل هي فلتة شوط ان يكون للبنان رئيس للجمهورية يمسك بعدة اكثريات في المجلس الوزاري ويشكل بيضة القبان بينها؟
لا شك ان عناصر التمويل الدولي للاقتصاد اللبناني تشهد ازمة خانقة على مستويات متعددة: اتساع الفجوة في الميزان التجاري، ضعف الطلب الخارجي على العقارات وبالاخص الخليج منها، تراجع مستوى التحويلات الدولية، التي حققت الفوائض المتراكمة في ميزان المدفوعات- رغم العجز المزمن في الميزان التجاري- خلال العقدين المنصرمين.
ولا شك ايضا ان انكماش التمويل الخليجي للاقتصاد اللبناني ليس حالة عابرة وذلك لاسباب سياسية واقتصادية على حد سواء. اذ لم تعد بلدان الخليج، وبالاخص المملكة العربية السعودية، تعتبر لبنان ساحة نفوذ لها في ظل تعاظم دور المحور المناهض للمملكة وتعاظم تأثير حزب الله في لبنان. وهذا العامل ينسحب على استعداد السعودية لتمويل الاقتصاد اللبناني مجددا ناهيك عن الانكماش الواسع الذي يشهده الاقتصاد السعودي في ظل استمرار حرب اليمن دون افق سياسي واضح والتراجع الحاد في اسعار النفط.
اذن العهد امام تغيير كبير في قواعد اللعبة الاقتصادية في لبنان، اذ لم يعد لبنان قادرا على النهوض وفق المعادلة التي ارسيت بعد الطائف والتي – ولاسباب متشعبة – ادت الى شبه افلاس في وضع المالية العامة والى ضعف في المؤسسات الاقتصادية للقطاع الخاص والى تحول البنوك من خادم للاقتصاد الى خادم لمالية الدولة.
انه التغيير في قواعد اللعبة الاقتصادية في لبنان! العهد لا يمكن ان ينجح دون مشروع لاعادة احياء لبنان اقتصاديا واخراجه من النظام الاقتصادي الريعي المرتكز الى الاثر الطارد للتمويل الحكومي والقطاع العقاري. لقد خاطب الرئيس بري المغتربين مؤخرا داعيا اياهم الى "تجاوز مسألة بيع وشراء العقارات واقامة الابنية باعتبار ان مساحة لبنان لم تعد تستوعب اساسا نشر الاسمنت الذي اكل وجه الانسان والارض". وللكلام دلالة واضحة...انتهى زمن اقتصاد الريع.
لبنان يملك طاقة نفطية محتملة لكنه يملك طاقة هائلة ومؤكدة في مغتربيه، ولا عودة قوية للرأسمال المنتج الى لبنان ولا لقواه السياسية الا بالاستناد الى هذه الطاقة.
الاغتراب قادر، اذا ما توفرت له الضمانات السياسية والاصلاحات الضرورية في الادارة والقضاء والبنية الاقتصادية للقطاعات المنتجة، ان يعيد انهاض لبنان وان يعطيه دورا اقتصاديا جديدا يتجاوز دوره الاقليمي المفقود نحو دور عالمي ينخرط من خلاله في ما يعرف بالاقتصاد الجديد القائم على المعرفة والتكنولوجيا الصناعية والزراعية والالكترونية مستفيدا من ميزات بناته وابنائه علما وثقافة وخبرة ورأسمال.
اضافة لذلك، فلا يمكن للقطاع المصرفي اللبناني ان يخرج من الدوامة-الازمة التي تبقيه اسير اقراض الدولة الا بانفتاحه على الاغتراب اللبناني المنتج الذي يمكنه وحده ان يعطي بعدا تاريخيا جديدا لنمو هذا القطاع الذي بات رهينة لاقتصاد غير منتج وغير ذات افق.
ان نجاح "الدبلوماسية الاقتصادية" التي يديرها لبنان في المغتربات هي عماد الاقتصاد السياسي في ظل العهد الجديد. ان نجاح العهد سيرتكز الى القدرة على دمج الاقتصاد المحلي بالاقتصاد الاغترابي... والفشل في ذلك هو بوابة فشل العهد، لا قدر الله.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News