"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
لم يستغرق سحق جبهة النصرة في الجرود اللّبنانيّة وإنهاء "فزّاعتها"، التي استمرت أعواماً، أكثر من 48 ساعة من عمر المعركة، كما قال الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله. لم يعد ينفع كلّ التهويل والتخويف والفيديوهات الكرتونيّة التي دأبت النصرة على توزيعها، وفي غمرة أحداث، سقطت الهالة كلّها التي حاول بعض الإعلام لف "الجماعة" بها. صار أفرادها مشردين في الجرود، حتّى أميرهم "التلي" بات ملاحقاً ولا يقوى على حماية نفسه، فجنح صوب السلم.
هنا جرود عرسال. مرتفعات شاهقة ووديان عميقة. سنان قاتلة وكسّارات تحولّت لسنواتٍ كمخالب تُدخِلُ أظافرها في خاصرة البقاع. هنا جرود عرسال، نجلس في حضرتها كضيوفٍ للمرّةِ الأولى. هنا سقطت الدماء لترفع الوطن إلى عليائه. هنا حارب وقاتل رجالٌ أشدّاء بواسل معقدنين، كذلك وعلى الأرض نفسها، جسى "القاعديون" على صدرها. هنا حضّر "التلي" سياراته المفخّخة، هنا قتل وخطف وأمر وخطب برجالٍ ليسوا ضعفاء؛ بل مقاتلين يحملون عقيدة، وفي صراعِ العقائد، استحق من بقي خارج التحريف "التيمي" أن يظفر بنصرٍ.
أوّل دخولك جرود عرسال يستقبلك شباب باللّباس العسكري مقدّمين المياه الباردة. إنّها "ريم" نقيّة وصافية. يهمس أحدهم: "معارك حزب الله برعاية مياه ريم!"، "ايه شو عاليه، كل شيء مباح في قتال الإرهاب، حتّى عبوات الـ7uP المنتشرة على الأرض! ليس بالـ"ريم" وحده يستقبل الزائرون بل بابتسامةٍ تعلوها نظرة احترام مع يدٍ سمراء تُقدّم قرصاً من التمر احتراماً. المعركة إذاً برعاية تمور الريان! يعلّق أحدهم "هناك يدٌ سعودية!"
تعبر ذلك الحاجز (على فكرة مختلف عمّا نعهده من حواجز) لتسلك طريقاً ترابيّة وعرة. حتّى سيارات الدفع الرباعي تعجز عن مقاومة تعرّجاتها. يجول المرء بنفسه متسائلا: "يا الله إذا السيّارة لم تعبر، فكيف صعد أولئك الشبّان تلالاً شاهقةً وخاضوا القتال عليها؟". بينما يُراودك هذا التساؤل، يقتحم شاشة تخيّلك مشهد واقعيّ لأشجارِ المشمش والكرز سمعنا عنها أنّها متروكةً في ظلّ احتلال التكفيريين. اللّافت أنّ تلك الأشجار لم تتعرَّ من ثمارها إلّا لأسبابٍ طبيعيّةٍ، فحبّات المشمش ما زالت تزيّن خضارها المطعّم بغبارِ الطريق، أمّا الحبّات التي لم تستطع الصمود عليها، فتهاوت إلى الأرض لترقد تحتها. الزملاء الزوّار لم يستطيعوا المقاومة أمام هذه المشاهد؛ فانبرى بعضهم لتذوّق "خيرات عرسال".
يسأل أحد الموجودين: "لماذا المشمش على حاله؟"، لا تأخذ الإجابة وقتاً حتّى تأتيه من مقاوم: "لا يجوز الأكل دون إذن!".. والإذن هنا مقرونٌ بأصحاب البستان. إنّه احترام حزب الله حتّى للشجرة والقيم!
على الطريق إلى واديي المعيصرة والخيل، كسّارات ارتفعت عليها مواقع عسكريّة تحيط بها سيّارات محترقة، وشبّان يرتدون البزّات العسكريّة. المُفارقة الثانية أنّ هؤلاء ليسوا من المتعاقدين المقاتلين؛ بل عناصر "تعبئةٍ" لبّوا الواجب للمشاركة في ملحمة الصمود.
على التلّة المرتفعة التي تواجه "وادي حميد"، والتي بنى فيها عناصر "النصرة" تحصيناتٍ يُستَحَالُ أن تُكسر. كانت التلّة حتّى الأمس القريب كسّارة قبل أن يصنع منها هؤلاء غرفة عمليّاتٍ لأمير "النصرة" أبو مالك التليّ. هناك فراشٌ وماءٌ ومدفئةٌ في العراء لم تنفع في زيادة حرارة أجساد التكفيريين لتدفع نحو القتال. هناك رائحةٌ ذكيةٌ تفوح من المكان لعلّها رائحة دماء الشهداء الذين ارتقوا في عمليات تطهير هذا المربّع.
يقف قيادي عسكري في المقاومة حاملاً في يده جهازاً لاسلكيّاً وعلى كتفه حتّى يده اليمنى يتدلى "AKS" روسي الصنع يختلط مع جهة القيادي البقاعيّة. يُسأل عن المعركة وظروفها، عن التليّ ورجاله، عن المقاومين وعن الشهداء، حتّى عن اسم المنطقة وأين تقع، وحدودها وما يحيط بها، والقدر الذي نبعد فيه داعش عنا.
يجيب الجميع وبكلّ رحابة صدر كيفما كانت أسئلتهم. لا يوجّه ملاحظات لأحد. في خُلاصة حديثه عن المعركة، يُشير إلى أنّ عناصر النصرة خسروا ثلاثة أرباع قوّتهم العسكريّة. للأمانة لا يعطي أرقاماً على الرغم من محاولة إحراجي المستمرّ له. كان يكتفي بالقول: "يعني بدك تقول ثلاث أرباع" (حسب التقدير السائد خسرت النصرة أكثر من 130 قتيلاً). أمّا الجزء الباقي فموجود ضمن مساحة 9 كلم مربع.
يُشير القيادي إلى أنّ حركة هؤلاء باتت محصورةً في وادي حميد والملاهي. وعلى أصوات الضربات الصادرة من الشمال، يُعلن القياديّ إنّنا "نشاهدهم ونعرفهم". ارتفعت وتيرة الأسئلة توازياً مع ارتفاع وتيرة القصف الذي كان يشدّ الزملاء الحاضرين نحوه، لكن القياديّ كان مُركّزاً على الإجابات. يتجنّب الردّ على أسئلة أمور التفاوض "نحن عسكر وأمور السياسة لأهلها".. "نحن منفهم بالميدان بس. سألني عسكر!". أمّا عن أبو مالك التليّ؟ فيجيب: "وينو؟" مع ابتسامة لنكتشف أنّه موجود في "حميد". عتبنا على عدم استهدافه، فيفاجئنا بأنّه "نجا مِراراً.. بس حيوقع"، أين؟ وكيف؟ خلال المعركة وتنقّله من "تلّة إلى تلّة".. ربّما ننجح في الزمراني ومن يعلم!
زركه حزب الله عن المعبر الفاصل مع داعش. هناك يواجه التليّ سيناريوان: إمّا بيعة داعش، أو قتاله! وبينهما، تُشير المعلومات أنّه يتهيأ للتفاوض كخيارٍ أفضل قبل وصوله إلى ذلك المعبر ويكون سقط ما سقط.
بقينا نحو 5 ساعات. لم نرصد من ذلك السفح المواجه لوادي حميد أيّ استهداف لمخيّمات النازحين، اللّهم سِوى سُحب سوداء ارتفعت من سيارتين جرى استهدافهما بشكلٍ مباشر.
في طريق العودة كان المشمش ما يزال متدلياً عن أمّه ينتظر أصحابه ليعودوا لقطافه. هذه المرّة القِطاف بحِمى حزب الله، لكن الثمار ستكون ذات نكهةٍ مختلفةٍ بعد أن تشرّبت عروقها ماءً من أرضٍ رُوِيَت بالدماء. ما يزال المقاومون يتجاهلون وجود المشمش "لأنّه رزق" لكنّنا نحن تطفلنا لنأكل. إنّها الطبيعة الإنسانيّة التي تُجبرنا على عدم مقاومة ملذّات الطبيعة! تذوّقنا مشمشة لُسِعَت من شمسٍ قاسية، علّنا نتشرّب القليل من فلسفةِ هؤلاء المقاتلين وصمودهم وصبرهم كي لا نستطيع تحمّل ما نعجز عن مقاومته!
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News