"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
خلال أقل من ثمانٍ وأربعين ساعة، تلقّى رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري ضربَتَيْن على الرأس تمامًا.
الأولى من عمق خزّانه السياسي عندما أقحمَ متظاهرون من طرابلس صوره وسط عاصفة غضبهم الهوجاء فأحرقوها، أمّا الثانية، فجاءَت من إحدى خزاناته السياسية، إذ أقدمت صحيفة أميركية على نشرِ فضيحةٍ من العيارِ الثقيلِ تورّطَ بها مع عارضة أزياء كلّفته 16 مليون دولار.. وأكثر!
ولا يُمكِن فصل الضربَتَيْن عن أخرى أخفّ وطأةٍ نزِلَت عليه، حينَ بدأ الهمس داخل مجالسٍ سياسيّة حول الفوائد التي قد تنتج عن تقديم الحريري إستقالته، والتي سرعان ما تحوَّلت إلى مادةِ تسريبٍ إعلاميّة اتهم "برتقاليون" بالوقوف خلفها.
كلّ ذلك، يأتي لسببٍ وجيهٍ يتحمَّل تبعاته الحريري نفسه، ويتمثّل في سقوطِ هيبته السياسية التي كان آخر فصولها إحراق صوره في معقله الطائفي الأوّل. حيث أنّ ما بعد هذه الحادثة، ليس كما قبلها، ولو أنّ المعالجات دخلت على الخطّ من أجل تذويب رواسب مشهديّة "يوم غضب الأحد".
في الأساسِ، بدأ سقوط "هيبة الحريري" تدريجيًّا، حين إقتحمت الندوب مؤسّساته ما أطاح بالعاملين فيها خارج ديار آل الحريري الداخلية والخارجية، من دون أي تعويضات مقابلة، ما أسَّسَ إلى تهاوي الصورة المثالية عن العائلة.
وتوالت الضربات وصولاً إلى إجتياحِ المؤسّسات الاقتصادية والتجارية والخدماتية والاجتماعية ثمّ الاعلامية وصولاً إلى تلك السياسية. كلّها "إجتياحات" كلَّفت تعليق العمل في التلفزيون وتشريد العاملين، وكانت تحفر عميقًا في نفوس الأشخاص المستفيدين سابقًا، فحوَّلتهم إلى اخصامٍ مفجوعين لا مؤيدين مخلصين، وكانت صورة الحريري هي المتضرِّر الأبرز في كلِ مرّة، وعند تزايد اعداد المصروفين.
وكما هو معلوم، فإنّ الحكم هيبة، ومن الطبيعي أن يسقط "الأوّل" بسقوط "الثانية" ولو أنّ الجسم يبقى معلقًا على أسوارها. وبالتالي، فإنّ توالي الضربات على الحكمِ يفقد الهيبة، وتمادي الانزعاج وتنامي جينات الغضب يوصلان إلى إسقاط هذه الهيبة، والشارع هو رأس جبل جليد إسقاط الهيبة، وأحد أثقل الامثلة عنها "إحراق الصور".
ولكي تزيد الطينَ بلّة، اتت قضية "عارضة الأزياء"، حتّى تضيف حجرًا إلى جدار تهاوي الهيبة. البعض يعتقد أنّ تسريب هذه المعلومة، أتى في وقتٍ سياسيٍّ حسّاسٍ يُلاطم الحريري من أقصاه إلى أقصاه.
أحد الاقطاب السياسيين توقّع منذ فترة قصيرة "سقوط هيبة الحريري" عند شارعه، لا بل أنّ أسوأ توقّعاته ذهبت نحو تكرار مشهديّة سقوط إمبراطورية آل الأسعد السياسية في الجنوب في معقل دارة الحريري. وقتذاك، بدأ السقوط منذ لحظة إسقاط صورة الرئيس الراحل كامل الأسعد في تظاهرات واعتصامات الجنوبيين وصولاً إلى إسقاطها من منازلهم.
لم يعد سرًّا، أنّ الحريري ليس في أفضل أحواله، السياسية والاقتصادية. في السياسة، هناك أمواج تتلاطمه مصدرها الشركاء الذين ينتظرون من الحريري "شغلًا أكثر" فلم يلقوا منه سوى "فتات عمل". وهؤلاء ينمو إعتقاد لديهم معزَّز بفرصٍ ووقائعٍ، من أنّ الحريري "ما بدو يشتغل" لجملة ارتباطات متّصلة بفقدانه السند الإقليمي وضياعه في البحث عنه من دون جدوى، وتعاظم الأزمات الاقتصادية التي تلهيه معالجتها عن القضية الأم.
طبعًا، حديثٌ من هذا النوع لا يمكن أن يأتي من عدمٍ. طِوال الأشهر الماضية، احصى شركاء الحريري وحلفائه، ضعفًا ينتاب أدائه السياسي، حوّله إلى متفرّجٍ من غير أن يكون مقرّرًا.
ثم إنّ حديث "الكواليس"، يكشف عن إنشغال الحريري بإهتمامات أخرى، إقتصادية الطابع تخصّ شركاته، وبالنتيجة، فإنّ الأزمات المُتَكرِّرة التي تعاني منها حوّلته إلى شخصٍ "ضيق الصدر"، يشطاط غضبًا في الجلسات الرسمية وغير الرسمية، عند كلّ محاولة من قبل أحد ما لمناقشته في قضية معيّنة.
ولم يكن ينقص القضية سوى تفشّي الأزمات الاقتصادية، من الدولار إلى الوقود، دفعة واحدة، والمصيبة أنّ تفرّغ الأزمات كشف عن عوراتٍ كثيرةٍ طبعت جسد الحريري، واظهرت انه "فاقد السيطرة" بكلّ شيء.
كان واضحًا، أنّ الرئيس الحريري أكبر الغائبين عن معالجة تلك الأزمات، إن على مستوى المتابعة أو اتخاذ القرارات. فمثلاً، وعند تصاعد أزمة المحروقات، حاول الرئيس الحريري الدخول على الخط من أجل إيجاد قاعدة معالجة، لكن من دون جدوى، ولكي تزيد الأمور تعقيدًا، "فرطت القصة" وأعلن من على منبر رئاسة الحكومة الإضراب العام للمحروقات، في سابقة.
ثم أتت قضية أخرى أشدّ وطأة. فعند حضور أزمة الدولار وإفلاتها في الشارع على شكل تظاهرات أخذت تشتم العهد بشكلٍ صريحٍ، بان صمتُ الحريري وكأن لا علاقة له بما يجري، وبدل أن يعمل على معالجة المشكلة، بالحدّ الادنى، فضّلَ ترك امور العلاجِ على عاتق رئيس الجمهورية وصلاحيّاته وكأن لا حكومة في البلاد، ثم مضى إلى ربوع باريس مشاركًا في مأتمِ الرئيس الراحل جاك شيراك.
وما زاد الأمور تعقيدًا بالنسبة إلى المقرِّرين، أن الرئيس الحريري يستطيع بسهولة التخلّي عن واجباته عند أي حدث مهما كان صغيراً أو كبيراً. فمثلاً، كان يفترض أن ينعقد مجلس الوزراء الاثنين من أجل استكمال درس مشروع موازنة 2020، ففضَّل الحريري تأجيل الجلسة على تقريبها والمغادرة في حمى التظاهرات.
هذا السلوك، دفع ببعض المقرِّرين إلى وضعِ إستقالة الرئيس الحريري على طاولة النقاش، على أساس أن لا قدرة على العمل مع شخصٍ "دائم الغضب" ولا يضع أولوية لعمل الحكومة، والاسوأ، أنه في موقعهِ غير منتجٍ، ولا تتعامل الحكومة في زمانه على أساس أنها حكومة "أزمة" يسعى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى استثمارها في مشاريعٍ تفيد العهد أمام الرأي العام ولا تضرّه.
لا ريب في أنّ صورة الرئيس الحريري تزعزعت على مدى يومَيْن كامِلَيْن، ولهذه "الزعزعة" بعض الأسس، فهي تأتي إستكمالًا لتلك الحاضرة في مؤسّساته الزاحفة نحو وادي الإفلاس السحيق، بعدما توالى اقفال المؤسّسات الاعلامية والاقتصادية، وصولاً إلى السياسيّة والتي يُرجَّح أن تكون آخر العنقود السياسي الذي يجثو الحريري فوقه.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News