"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
ثمّة عوامل عدّة تؤدّي إلى إستنتاجٍ واحدٍ، أنّ ما يواجهه اليوم وزير الخارجية جبران باسيل من سخطٍ وحملاتٍ وهجماتٍ ورفضٍ وعدم قبولٍ في الشارع يُشبه إلى حدٍ معيّن، ما عانى منه العماد ميشال عون يوم كان قائدًا للجيش في العام 1989.
في تلك المرحلة، حَمَلَ "الجنرال" نفَسًا تغييريًّا واضحًا، سعى إلى إدخاله في بُنيَةِ النظام. وبخلافِ السوادِ الأعظمِ من زعماء أحزاب الحرب المُسلّحة الذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من الإتفاق على محاصصة ترك الحرب والاستفادة من تركتها في "الطائف"، كان عون وحيدًا يُناطح السحاب ويرفض كلّ الخيارات التي كانت تُقدَّم على طبق الدعم الدولي. في المقابل كان قادة الميليشيات لا يعتبرونه ممثل الشرعية بل حالة شاذة عنهم.
في حالة الوزير باسيل اليوم، ثمّة عدم قبول يواجَه به من سلطة الحكم المتمثلة بزعماء الأحزاب نفسهم، الذينَ يعتبرون باسيل شخصًا مرفوضًا خارجًا عن طبيعتهم السياسية، مستفزًا إلى أقصى درجة، ولا يعير أيّ إهتمامٍ لما راكموه على مدى سنوات، لا بل لديه الدافع نحو تدمير تلك الحالات.
وفي حالة عون، واجهَ "الجنرال" حربًا ضروس قبل أن تبدأ المعركة في الميدان. وقد جرى إستخدام سياسة شيطنة عون وتصويره "بُعبعًا" لا يريد إنفاذَ أمر إنهاء الحرب، شخصًا راديكاليًّا متطرّفًا يريد سلب السلطة بقوّة السلاح. وقد نجحت تلك البروباغندا من تشويه صورته عند الفئة المُسلمة التي باتت تعتبره حالة شاذة، ففقد على إثر ذلك دعمها في حربه ضدَّ الجيش السوري وصولاً إلى خروجِ قادة الجيش المسلمين من المجلس العسكري. والوضع لم يكن أفضل حالاً على صعيد الساحة المسيحية التي ضُربت فيها صورة عون كشخص لا يقيم للحقوق المسيحية وزنًا ويريد سلبَ مُقدّرات ما تسمى "المقاومة المسيحية" التي كانت تمثلها "القوّات اللبنانية".
وباسيل اليوم يُعاني المشكلة نفسها تقريبًا. صوّرَ من قبل الطبقة السياسيّة على أنّه شخص "راديكالي متطرف"، وقد إستخدمت بعض النماذج في سبيل تزكية هذا الاتهام والاستثمار به في الشارع من خلال تعميم ثقافة "شيطنته"، عند الفئتين المسلمة والمسيحية. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّ خطاب باسيل ساهمَ إلى درجة عالية في سَوقِ الاتهامات إليه، ما أسَّس الآن إلى إتخاذه كهدفٍ رئيسيٍّ لسياسة الانتقاد في الانتفاضة الحالية، رغم أنّ مساهمته في النظام الحالي تُعتبر نسبية مقارنة بنسب غيره!
وفي ظلّ مشهد الاحتقان القاتم الذي سادَ الشارع غروب 1989، تصرّفَ العماد عون بلامبالاة تجاهه، معتبرًا، أنه يكتسب سلطته من الشرعية الممنوحة إليه من مؤسّسات الدولة وتوكيل رئيس الجمهورية له إدارة حكومة عسكرية في البلاد، فسدَّ آذانه عن قبول أي حل لا يأخذ بعين الاعتبار صفته الشرعية. ولاحقًا مع انكماشِ الأوضاع، تقدَّمَ قائد الجيش بخطوةٍ إلى الأمام تمثلت بمعركة خاضها من أجل إخراج الجيش السوري من لبنان.
وفي وضعية باسيل الآن، شيء مشابه إلى حدٍ ما. هو يتعامل مع انتقاده في الشارع بشيء من عدم الاكتراث واللامبالاة، معتبرًا، أنّه يستمدّ سلطته من شرعية انتخابية مُنِحت له عبر صناديق الاقتراع، وهو يقوم على ظهر "مؤسّسة نيابية" يُقدّر عدد اعضائها بـ 29 نائبًا اعطته الحق بالتمثّل في الحكومة. وإنسجامًا مع ذلك، هو ليسَ في واردِ مغادرة هذا الترف وتركه إلى غيره كي لا يظهر كأنه إنكسر، تمامًا كما فعل نسخة "عون 89"، الذي ذهبَ إلى الحرب كي لا يظهر إنه إنكسر من قبل "جماعة الطائف".
اليوم في السلطة تتكرَّر النماذج نفسها. هناك من يريد إزاحة جبران باسيل من موقع وزارة الخارجية كمقدمة لإسقاط حظوظه في الرئاسة، تمامًا كما حدث مع "عون 89"، يوم تقرّرت معاقبته على رفضه "الطائف"، فصدر أمر إزاحته من قصر بعبدا كمقدمة لإنهائه سياسيًّا أو في الحد الأدنى إسقاط حظوظه في تولي أي مسؤولية لاحقًا، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية.
في تلكَ المرحلة، استُخدِمَت القوّة العسكرية كإستثمارٍ جيّدٍ في إزاحة عون، واليوم تستثمر "القوّة الناعمة" المتمثلة في الشارع كوضع جيد يُستخدم في إزاحة باسيل، والاكيد أنّ هناكَ شيئًا مشتركًا، في وجود مصلحة دولية في إزاحة باسيل كما كانت هناك مصلحة في إزاحة عون.
اليوم، ثمة "تشاطر" واضح تقوم قيادات السلطة بعددٍ منها، هدفه الاستفادة من الشارع كمبرّر لازاحة باسيل، وفي مكان آخر، تقديمه كـ "خروف عيد" إلى الشارع الثائر علّه يفيد في مسألة التخفيف من الاحتقان السائد. لكن هذا الأمر قد يُرتب على السلطة صراعات شتى، منها الداخلي في ظل وجود طرفٍ يرفض مطلقًا إزاحة باسيل، ومنها الخارجي الذي يجد مصلحة في التخلص من "وجعِ الرأس" الذي يسببه "الوزير الملك".
يدور الكباش حاليًّا في مسألة التعديل الحكومي على شخصِ باسيل. أغلب الخطط التي تُسرَّب تقوم جميعها على فكرةٍ واحدةٍ تتمثَّل في "إخراج باسيل من الحكومة"، أمرٌ يرفضه رئيس التيّار وبعض حلفائه، ولو أنّ هؤلاء قد يجدون في مكانٍ ما، منفعة لـ"الصهر" قد تفيده في مجال التحضير لمعركة الرئاسة.
ليسَ سرًّا، أنّ عون كان يرفض بدايةً فكرة إزاحة باسيل، ربما منعًا لتكرار تجربته عام 89، لكن في وقتٍ لاحقٍ، قَبِلَ على مضض خروجه، لكن ضمن شروط تسوية مُعيَّنة تقضي بإزاحة أشخاصٍ آخرين على وزن باسيل من الجنة الحكومية.
وفي سبيل ذلك، قدَّمَ برّي التضحية وكذلك فعلَ الحريري وجنبلاط وفي مكانٍ ما حزب الله.
هذه المعلومات، تؤكِّدها أطراف على إطلاعٍ دقيقٍ حول مستجدات المفاوضات الداخلية بين تركيبة الحكم، التي تلمّح إلى دور ما لعبه المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم في إقناع الرئيس عون بمضمون الحل، لقاء تنازلات تقدمها الأطراف الاخرى على وزن إخراج "ملوكها" من الحكومة.
وعلى عكسِ ما يجري تصويره، فإنّ حزب الله كان ميالاً صوب قبول الحل ضمن شروطٍ معيَّنة، بدليلِ حركة اللواء إبراهيم التي لا يمكن أن تأتي من خارج موافقة الضاحية، لكن الاخيرة وعلى عكس الاطراف الباقية، اشترطت في شأن القبول أن يبدأ فتح الطرقات، بصرفِ النظر عن الآلية.
لكن سرعان ما عادت كيمياء باسيل لتدخل إلى جادة عون. وبطريقةٍ ما، نجَحَ رئيس التيار الوطني الحرّ بانتزاعِ تغيير على صعيدِ موقفِ عون، من موافقٍ على التعديل إلى رافضٍ له، مبلغًا من يعنيهم الأمر أنّ وجود باسيل في الحكومة هو "ملازمٌ لوجودِ الرئيس سعد الحريري في الحكومة، من منطلقِ أنّهما يرأسان تيّارَيْن سياسيَيْن".
ومع دخول هذا التبدّل، عادت الأمور إلى نقطةِ الصفرِ. ويدور الآن بحثٌ حول حلولٍ، في ظلّ إرباكٍ واضحٍ دخلت به السلطة منذ تاريخ الخروج عن التفاهم الأولي. إذ عادَ حزب الله للتموضع ضمن قاعدة "باسيل أو لا أحد"، وبرّي عاد لرفعِ وزير المال علي حسن خليل إلى أعلى السلم، ورئيس الحكومة سعد الحريري يعتبر نفسه في حلٍ من أيّ إتفاقٍ، وهذا ينسَحِب على تغيير وزرائه، لا يراعي موافقة جميع الافرقاء، وجنبلاط كعادته، "كوَّع" ملوِّحًا بالاستقالات!
معنى ذلك، أنّ الأمور الآن بحاجةٍ، على ما يقول أكثر من طرفٍ معنيٍّ، ربما، إلى تدخلات دولية تذيب الجليد الذي عاد للتراكم على الطريق، ربما قد يجد الجميع ضالتهم في "المبادرة الفرنسية" التي تُطبَخ على نارٍ هادئةٍ.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News