قتيلٌ على قالب جبنة

"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

أهلاً وسهلاً بكم في بلدِ الجبنة. أجبانُ الجمهورية اللبنانية من أجودِ الحليب والقشدة كاملة الدَّسم. حليبُ التفاهة وقشدةُ الفساد. هشّة كانت أو صلبة يتقاسمُ الساسةُ الجبنةَ من رأسِ الجمهورية إلى أخمصِ قدميها. كلُّ شَيْءٍ يفوحُ عندنا بالجبنة. هنا يولدُ الناس مصبوبين في قوالبها. يتدربونَ يومياً على التأقلمِ مع أشكالها وأحجامها. مربعةٌ أو مستطيلةٌ أو مدورةٌ لا يهمّ. المهمّ أن تكونَ قابلةً للأكل والقسمة. يأكلُ منها الزعماءُ قطعةً ويتركونَ قطعةً أخرى لمجاعةِ الإخوة. وطنٌ بنكهةِ " الروكفور ". يأكله الساسةُ بعَفَنِه. يمضَغونَ كلَّ لقمةٍ منه بِنَهَمٍ وشراهة.

المواطنُ في لبنان مُساعِد عَشّي. " مرمَطون " واقفٌ بالقرب من مائدة يخدمُ " المَعازيم ". جائعٌ جغرافيٌّ يخدمُ متخَماً تاريخياً. مهمته القومية تبديلُ صحنِ الزعيم. صحونُ الزعماء مترَفةٌ ومزيّنة. صحونُ الخَدَمِ ممتلئةٌ بالفضلات. أُسَرٌ بكل الأقارب والأنسباء تحكمُ الدولة. في عروقهم جميعاً يسري دمُ القياصرة. تُعاونُهم ثلةٌ من الأصدقاء أوفى من كلاب الحراسة. خارجَ هذه الدولة يمكنُ أن ترى دولةً بور. أرضٌ جدباءٌ وخِرافٌ أجدَب ينتظرون الذّبح الحَلال.

عندما تصحو الدولةُ تتذكَّرُ شهداءَ القضاء. تقتلُهُم من كثرةِ محبَّتِها. دولةٌ فصَّلَت من روبِ القاضي ممسحةً ومن مطرقته خازوقاً. تدخلُ على قاعةِ المحكمة. تسألُ القاضي بأيِّ كتابٍ يصلّي. توزّعُ المناصِبَ القضائيةَ على الكتُب السماوية. تجعلُ فَوْقَ كلِّ قاضٍ أسقفاً أو شيخاً أو إماماً. دولةُ قضاءٍ.. وقَدَر.

في لبنان طبقةٌ من الحكّام تعيشُ على جثثنا. غذاؤها من رفاتِنا وشرابُها من دِمائنا. فصيلةٌ من الزومبي العَطِشة لطعمِ الدم. ميِّتةٌ وتسيرُ على قَدَمَين. تتقدّمُ نحونا. لا ينفَعُ معها سوى التصويب على رأسها. زومبي تأكلُ كلَّ شيء. تتسلّقُ كلَّ الجدران وتخترقُ كلَّ القلاع. ديمقراطيةُ الزومبي. نظامُها قائمٌ على الضرس الطيِّب. مؤسساتُها على الفرائسِ الطازجة.

دولةٌ بصددِ اجتيازِ قطوع. قطوع التعيينات الإدارية. موظفون بمؤهلاتِ نجّاري الباطون. يتقنونَ تصميمَ القالبِ ثم يرمونَ بأنفسهم فيه. العديد من الموظفين في دولتنا أعمدةٌ خرسانية. يزرعُها أكَلَةُ الجبنةِ لحمايةِ الهيكل. عمودُ إنارةٍ أو عمودُ أساسٍ لا فرق. العمودُ أحمَق. ليس لأنه محكوم بالمراوحة مكانه فحسب بل لأن الزعيم يهدمُه متى يشاء.

تربّينا أن العلمَ نورُ . تبيَّنَ لنا بالإختبار أن الزعران والجهَلة هم نورُ الدولة. صرنا نستحي بالشهادات التي نلناها. علّقناها في حمّاماتِ الضيوف. باتت تفوح ُ منها الروائح الكريهة نفسها التي تفوحُ في الحمّامات. قيمة الشهادات الجامعية في لبنان أبخس من زِبلِ البَقَر. ديمقراطيةٌ يحميها الحَرامي ليست بِحاجةٍ إلى شهاداتٍ وكفاءات. بِحاجةٍ إلى ماسِحي جوخٍ وأقفِيَة. " كلِبتوقراطية " أساسها إجرامُ العصابات، أحقادُ المافيات وفسادُ الزُّمَر.

في دولتنا إعلامٌ أيضاً. واحِدٌ ينبح وواحدٌ يمدح. إعلامٌ مسيحيٌّ وآخر محمّدي. واحِدٌ بابويٌّ وآخر معمّم . شاشاتٌ للشيعة وأخرى للسنّة. للروم للموارنة وللدروز. تلفزيون لبنان هذا المرحوم الراقد على قيد البث. تبحثُ شاشتُه عن لبنان وسطَ زحمة المصلّين والصائمين. إعلامٌ يُعلِن ولا يُعلِم. يتقاضى بأغلبه راتباً من طويلِ العمر تارةً ومن طويلِ الباع تارةً أخرى.

حتى الكتابة صارت رتابة. دولةٌ تَرتابُ مِن الكلمة. دولةٌ يختبئُ فيها الكتّابُ وصنّاعُ الرأي خوفاً من ملاحقةٍ وتهمةٍ وتوقيف. الكتّابُ عصافيرُ الرأي. بدلَ أن توفّرَ لهم الدولةُ قنبزاً، تصطادُهم بالدِّبق وتصنعُ لهم أقفاصاً مسيّجةً بالرعبِ والترهيب. للأقلامِ أجنحةٌ في لبنان. تتحولُ إلى طائراتٍ حربيةٍ عند اللزوم. مؤسفٌ أن تدخلَ طائعةً الى أقفاصها. صوتُ العصفورِ المنشدِ لسَيِّده نشاز .

الجوع مؤمن. لن يدفعنا الى مزاولة كار الوحوش. وحده لحمُ الطاغيةِ ولحمُ النظامِ قابلٌ للإفتراس. الجائعُ لا يأكلُ جائعاً آخر. يأكلُ الجائعون مَن أفقرهم وجوَّعهُم. التحوّل من فصيلة الخراف الى فصيلة الذئاب ضروري للقطيع. ذئبنةُ غضبِنا من شأنها أن تضع حداً لحفلة الذبحِ الجماعي هذه.

يجب الإعتراف أننا مقصّرون. الثورةُ الحقيقيةُ يجب أن تكشّرَ عن نابها. أن تستذئب. رغيفُ الخبزِ عاتبٌ عليها. حبّةُ الدواء وحبةُ الحنطة وحبةُ البركة أيضاً. القسطُ المدرسي وقسطُ الراحة يطالبانِ بعودتها. صرفُ الليرة وصرفُ العمّال والموظفين ينتظرون عودتها. بيوتُ الفقراء وبيوت الشعر ستحتفل بنزولها الى الساحات. جمهوريةٌ تحتدمُ على قالبِ جبنة يجبُ قتلُها مهما كلّف الأمر.