لعبت رؤية 2030 في السعودية دوراً مهمّا في تقريب خبايا الاقتصادات الناجحة إلى عيون الباحثين العرب بخاصة بعد انفتاح المملكة على تحوّلات هيكلية في تعزيز الانتاج والابتعاد عن الريعية. وهنا، اختارت منصة "الطاقة"، -ضمن ندواتها "التويترية" الأسبوعية-، بإشراف خبير أسواق الطاقة العالمية الأستاذ أنس الحجّي سؤالاً مفصلياً لتطرحه عليّ كباحث في الشؤون الدولية، وذلك في إطار النقاش بالنرويج كمثال تنموي يُحتذى به لدول الخليج في ظل سياسات الحياد الكربوني. وعلى تجربة النرويج بُني النقاش عن "النفط حين يكون رحيماً".
لعلّ ما استلزم هذا النقاش النموذجي بين التجربة النرويجية الرائدة، والتجربة السعودية الطامحة، هي الاستفادة لا المقارنة التي لا تجوز بين التجربتين. فالإقتصاد النرويجي هو اقتصاد انتاجي يعتمد كل الاعتماد على النظام الضريبي المسنود بنظام توزيع الثروات، والمتجدد بتجدد البرلمانات وتقلّب سياساتها. نظام مبنيّ على أرقام واقتطاعات ضريبية تصاعدية عادلة، تُحيّد قطاع النفط من اعتبارات الانفاق منه. لذا بطبيعة الحال لا يُشبه التجربة السعودية، باقتصادها الريعي الذي يعتمد على سياسات نفطية انفاقية منذ سنوات.
إلا أنه ومع الاتجاه الحالي لتفكيك تراكمات الاقتصاد الريعي ضمن مشروعات التنمية الكاملة كان لا بد من الامتثال البنّاء لتجربة ناجحة كالنرويج، إذ أن لعنة النفط فيها رُسمت رحمة. لا بل في النرويج درس قيّم، يمكن استقاء منه ما يمكن أن يكون إضافة إيجابية لمستقبل واعد أمام السعودية، نظراً لوجود رؤى واضحة واهتمام من القيادة العليا في البلاد التي تبحث عن تنمية جودة الحياة وتقديم أرقى الخدمات في مجال الإسكان وتحسين مستوى الدخل للفرد، واستمرارية رفع الإيرادات غير النفطية.
كيف تتحول نقمة النفط إلى نعمة؟
يتكرّر السؤال أعلاه في الآونة الأخيرة على مسامع الباحثين المهتمين بقطاع الطاقة، على الرغم من أن المزاج العام لأغلبية محللي الشؤون الطاقوية في وسائل الإعلام التقليدية يميل إلى استبعاد التجربة النرويجية كنموذج ناجح يُحتذى به، نظراً للبعد الجغرافي لهذه المنطقة عن بلادنا العربية. إلا أنه يمكننا فعلياً التعلّم منها الكثير.
عادة ما تُقيَّم اكتشافات الموارد الطبيعية على أنها "لعنة" بعض البلدان. بعكس النرويج، فقد تمكنت باعتبارها متأخرة في إنتاج النفط، من تحويل موارد النفط والغاز إلى أصول حقيقية ومالية. فعملت على تحييد الاعتماد على هذا القطاع ومن ثم صب عائداته صندوقاً للادخار بالتزامن مع تطوير شركات نرويجية محلية نفط فعالة وصناعة خدمات نفطية قادرة على المنافسة دوليًا.
اتفق الشعب والدولة على أن الموارد النفطية لا تخص الشعب النرويجي الحالي فحسب بل تخص أجيالاً لم تولد بعد فيه، لها حق يُحفظ!
الفارق بين الاقتصاد الريعي والاقتصاد الإنتاجي، أن مجمل عوائد النفط والغاز النرويجية تذهب إلى الصندوق السيادي للادخار، المؤسس في ستينيات القرن الماضي، الذي عُدِّلَ واستُحدِث في التسعينيات، وتحديدًا في عام 1990، عندما أعاد البرلمان صياغة الصندوق بشكل مختلف، يتوافق مع الوفرة النقدية والمادية التي أصبحت تأتي للبلاد من عائدات النفط النرويجي.
بعبارة أخرى، لقد ارتكزت قصّة نجاح النموذج النرويجي على مرحلتين متميزتين إلى حد ما. الأولى "مرحلة الحماية والبروز" حيث كان التركيز القوي على تعزيز شركات النفط النرويجية المحلية الماهرة وكذلك صناعة خدمات النفط الوطنية... والثانية "مرحلة الانفتاح والادخار الكامل" حيث فتحت الأبواب إلى الملكية الأجنبية وتدويل التجربة النفطية النرويجية وتحويل كل ايراداتها إلى ماكينة أمان اجتماعي مترابط ومستدام.
لا تنظر القيادة النرويجية، إلى الاستهلاك المخطط إلا بعين الالتزامات المستقبلية، وبسيناريوات التشاؤم لا التفاؤل فتكون تقديرات العائد الحقيقي المتوقع على رأس مال الصندوق مفرطة في السوداوية كي تحقق الرخاء فعلياً.
وعملياً، يتم توجيه جميع الإيرادات إلى الصندوق السيادي، ومن ثم يتم استثمار رأس مال الصندوق في الخارج. كما تسترشد التحويلات السنوية من الصندوق إلى الميزانية المالية بالقاعدة المالية التي تنص على أن الإنفاق في المتوسط على مدى الدورة يجب أن يقتصر على العائد الحقيقي المتوقع للصندوق - المقدر حاليًا بنسبة 4%.
فالتجربة تقول أن الصندوق السيادي في النرويج -الذي يعدّ الأغنى في العالم بما يعادل 1.3 تريليون دولار- هو الذراع الاقتصادي النرويجي في الخارج، ويقوم بمجمل استثمارات فقط في الخارج، وليس داخل الدولة، وهذه الاستثمارات متنوعة لا تخصّ مجالًا معينًا، فهي تتنوع بين البورصة والصناعات النفطية والبتروكيماوية وغيرها. كما أن استثمارات الصندوق السيادي تقع في مختلف الدول والقارات حول العالم، حتى إنه يُجري استثمارات في دول الخليج، خاصة في مجالات الأسهم وصناعة النفط، إذ إن دولة الإمارات من أكثر دول الخليج استهدافًا للاستثمارات من قبل الصندوق النرويجي، وتليها قطر، ثم المملكة العربية السعودية.
عربياً، تستقبل المملكة العربية السعودية مذ أن بدأت رؤية 2030 بالتبلور، إعادة هيكلة التوجهات الاقتصادية إلى ما يُشبه النرويج اعتماداً على الانتاج لا النفط. وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أنه لا يوجد فورة إنفاق في النرويج. في الواقع، 4٪ فقط من فائض الصندوق يتم إنفاقها أو استثمارها في المشاريع العامة حالياً وهي نسبة تتعدل بقوة البرلمان الممثل للشعب وخياراته الواعية. يعمل فيها البرلمان امتثالا لمطالب الشعب، إذ أنه لكي يعمل هذا النوع من الأنظمة، يجب أن يكون لدى المواطن مستوى هائل من الثقة بإدارة وطنه، وثقة بأن الأموال لن تتم إدارتها بشكل سيء - وأنه لن يتم إنفاقها بطريقة مكروهة.
أي أنه ونتيجة للديمقراطية الاجتماعية وسياسات المساواة، أصبح المجتمع النرويجي متجانسًا وبنى مستوى هائلًا من الثقة مع إدارة دولته وهي ثقة موجودة فعلياً في المملكة بين الشعب والإدارة السعودية وبالتالي يبدو النموذج النرويجي سهل التطبيق في المملكة إلى حد واسع إن فتحت الأبواب على المقلب الآخر في ألا يكون النفط مورد المملكة الأول وأن يتحوّل إلى صندوق ادخار لا صرف وان تتعزز القطاعات الانتاجية وتترابط بمنظومة ضربية عادلة تصاعدية منحازة لمصلحة المساواة المجتمعية.
ما أن يتقلص مجال الإنفاق العام عملاً بالتدابير الجديدة المعتمدة في رؤية 2030، وما أن تتم زيادة استخدام تحليل التكلفة في قرارات الاستثمار والاعتماد على نظام ضرائبي متراص كذلك المعتمد في النرويج سيكون هناك حاجة ملحة لتعزيز الانتاجية وكذلك الابتكار واعتماد التكنولوجيا وبالتالي التحرر من الريعية والبدء بتحقيق فوائض بشكل أساسي للادخار.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News