"ليبانون ديبات"- قاسم يوسف
أشار إلى الطاولة الوثيرة التي ترقد أمامنا ثم ضحك: هذا يا سيدي تمر يثرب، بشحمه ولحمه، وذاك زبيب الطائف، وهنا قهوة حضرمية من حضرموت، وتبغٌ عجمي من أصفهان، يبقى فقط أن تُضيف إلى مائدتنا المشتعلة رشة ملح من شواطئ المتوسط.
كان اللقاء مباغتًا وطويلاً ومتشعبا، وأحسب أنني افتتحت النقاش من حيث انتهى الترحيب: وهل بقي غير الملح في بيروت؟
"مسكينة هي بيروت. موطئ القلب وموطئ الوجع. لكنه قدرها المستدام. تحترق كلما اشتعلت المنطقة وتهدأ كلما استكانت. لست أميل إلى اللطم والندب والوقوف على الأطلال. ولست أيضًا من هواة الإفراط في التفاؤل. لكن الاتفاق السعودي الإيراني سينعكس حتمًا على استقرار مرحلي في لبنان، وهو استقرار مطلوب عربيًا وإقليميًا ودوليًا".
- يُحكى أن زيارة ستحمل نبيه بري إلى الرياض؟ ما صحة الخبر وما تداعياته؟
"ليس ثمّة ما يؤكد الزيارة أو ينفيها، رغم أن غالبية التقاطعات تؤشر إلى أرجحية وقوعها، وهي إن وقعت، فلا بد أنها ستشكل مفصلاً، ليس على صعيد التقدم في انجاز التسوية الرئاسية وحسب، بل على صعيد ما ستسمعه الرياض من ضيفها المُقلّ حد الصيام، وفي ذاكرتهم عنه أحداثٌ ثلاثة، وأحسب أن لا حاجة بهم لأربعة".
"الحدث الأول تمثّل في البرقية الرمضانية الاستثنائية والدافئة التي أرسلها الرجل إلى الملك عبد الله تزامنًا مع انفجار الثورة في سوريا، وقد ناشده عبرها التدخل العاجل لرأب الصدع بين العرب، متوجهًا إليه بالقول: لا أرى غيركم بعد الله للمصالحة، ليس بين السوريين وحسب، بل بين العرب والعرب. مع ما تعنيه هذه المناشدة العلنية من اعتراف ضمني وصريح بمكانة السعودية ودورها كحضن حاضن، وكمرجعية عربية واسلامية تتصدر كل الصفوف".
"الحدث الثاني كان في الابتعاد من الانغماس في حمام الدم الذي فاض في سوريا، وقد كان لموقفه ذاك تداعيات هائلة، لامست حدود العتب والقطيعة مع النظام في دمشق، وهذه صفحة مُشرقة ومُشرّفة لا بد من تأملها والوقوف عندها، مع ما تكتنزه من موقف وطني شجاع، إزاء تلك المرحلة وما واكبها من حفلات التحريض والردح والجنون، ناهيك عن مواكب الجثث التي انهمرت كالمطر فوق ضاحية بيروت وقرى البقاع والجنوب".
"تبقى صورته الشهيرة إلى جانب آية الله علي السيستاني، ليس باعتبارها حدثًا ثالثًا يُضاف إلى حدثين مشابهين، بل انطلاقًا من كونها أساسًا يؤسس عليه، حيث أراد الرجل عبرها أن يوجه رسالة واضحة وملونة بالصوت والصورة لكل من يعنيهم الأمر، مفادها أنه لا يزال في الجانب العربي من شيعيّته السياسية، وأن مرجعية النجف مهما وهنت أو ضعفت أو كُسرت أو غُيبت، ستبقى البوصلة المشتهاة في خضم عالم عربي تتباهى ايران بالسيطرة على أجمل وأبدع وأقدم عواصمه وحواضره".
- ماذا سيقول نبيه بري في الرياض؟
"سيقول لمن يسمع: سليمان فرنجية هو آخر الموارنة تمسكًا باتفاق الطائف. وآخرهم قدرة على تطبيقه واحترامه وتأمين استدامته. نحن أهل البلد ونحن أدرى بناسه وشعابه. إذا رفضتم سليمان فرنجية فأنتم تدقون آخر إسفين في نعش هذا الاتفاق. وتفسحون المجال أمام إعادة إنتاج عصبية مارونية على شاكلة ميشال عون وجبران باسيل. سليمان فرنجية هو واحدٌ من أربعة تم منحهم غطاء الكنيسة المارونية بحضور البطريرك، ورفضه من قبلكم يعني إخراجه من دائرة المرشحين المحتملين. وهذا خطأ كبير. لأن بديله لن يكون إلا الأقوى في بيئته أو الأضعف على الإطلاق. وفي الحالتين هذا لن يفيدكم ذلك ولن يفيد لبنان".
- وهل تعتقد أن المملكة قد يشتبه عليها الرأي أمام كلام من هذا النوع؟
"نبيه بري غمز من هذه القناة في كلام نُسب إليه مؤخرًا، وغمز أيضًا من مارونية فرنجية المتجذرة، وهو عادة لا يُطلق كلامًا بهذه الدقة وهذه الحساسية بهدف المماحكة أو تسجيل المواقف، بل لأنه يدرك أن المآخذ العميقة على الرجل تستند إلى اعتباره مارونيًا من خارج جبل لبنان، ما يعني ابتعاده من الموارنة الأقحاح، وليس المقصود هنا موطئ الرأس، بل موطئ العقل، وهذا تمامًا ما يريد بري أن يفهمه السعوديون على نحو عميق، وهو الدرس الأول الذي أتقنه حافظ الأسد بعد سلسلة طويلة من التجارب المريرة، وقد صار بعدها يُفضّل وصول موارنة الأطراف إلى رئاسة الجمهورية، على حساب موارنة جبل لبنان، باعتبارهم أقل تصلبًا وأكثر انفتاحًا على التسوية وعلى التفاهم والحوار".
- تقصد أن بري سيقنع السعودية بأن سمير جعجع وسامي الجميل هما في الحقيقة الوجه الآخر لميشال عون وجبران باسيل؟
"نعم. سيقول ذلك بشكل واضح وصريح ودون مواربة. وسيخبرهم أيضًا أن أي خيار خارج إطار الأربعة المتفق على مارونيتهم الوازنة سيفتح أبوابًا لا يُمكن إغلاقها، وقد تدفعهم مجتمعين أو منفردين نحو اتخاذ خيارات راديكالية لا يُمكن توقعها، على شاكلة اتفاق معراب".
- لكن ذلك قد يصح أيضًا في مواجهة سليمان فرنجية. ألم يفعلوها سابقًا لإسقاط ترشيحه وترجيح كفة ميشال عون؟
"صحيح. الفارق اليوم أن حزب الله غير مرتبط بوعد قطعه يومذاك لميشال عون. والفارق أيضًا أن سليمان فرنجية سيشارك هذه المرة في جلسة انتخابه، ولو شارك سابقًا لصار رئيسًا، ولذلك فإن اللعبة هذه المرة هي لعبة تأمين النصاب والحصول على العدد المطلوب من الأصوات لإيصال مرشح لا غبار على مارونيته، باعتراف علني وصريح من أقطاب الموارنة ومن سيد بكركي".
- وهل تعتقد أن السعودية معنية بهذا النقاش وهذه التفاصيل؟
"قد يظن الكثيرون أنها غير معنية بهذا التشعب ضمن الأزقة اللبنانية وما يرافقها من حساسيات تاريخية وجغرافية. لكن نبيه بري سينطلق من هذه القراءة ليبلور فكرته التي تتمحور حول أهمية سليمان فرنجية كقطب ماروني وازن، لكنه من خارج المدرسة التقليدية، وكشخصية وطنية قادرة على التفاهم مع الشيعة بحكم تحالفه معهم، ومع السنة بحكم احتكاكه الجغرافي والديغرافي بهم، ما يعني أنه الشخصية النموذجية، وأنه الاستكمال الطبيعي لاتفاق السنة والشعية في بكين، ناهيك عن قدرته في انتزاع تنازلات جوهرية من حزب الله ومن النظام السوري".
- ماذا لو أصرّت المملكة على موقفها الرافض وغير المرحب بفرنجية أو بأي شخصية محسوبة على حزب الله؟
"حينذاك لن تحصل الزيارة أصلاً. لن يذهب نبيه بري إلى الرياض ليعود منها خالي الوفاض. هو يدرك تمام الإدراك أن خريف العمر ما عاد يسمح بدعسة ناقصة. وأن زياراته التي لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة في العقد الأخير، لا تتناسب مع رحلة لا تؤتي كامل اُكلها. حاله في هذا، حال ذاك اللاعب الذي يتوثب في آخر مبارياته نحو قطف كأس العالم، لا نحو التقاعد أو الجلوس في مقاعد الاحتياط".
*(هذه حلقة أولى ضمن حلقات متلاحقة من النقاش حول تطورات لبنان والمنطقة، وسيتم العمل على نشرها تباعًا)
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News