المحلية

placeholder

قاسم يوسف

ليبانون ديبايت
الثلاثاء 30 أيار 2023 - 19:54 ليبانون ديبايت
placeholder

قاسم يوسف

ليبانون ديبايت

أردوغان يروي عطشهم من ماء عينيه

أردوغان يروي عطشهم من ماء عينيه

ليبانون ديبايت - قاسم يوسف

تبدأ السرديات التاريخيّة الكبرى بقصص صغيرة على قياسات أهلها، ثم ما تلبث أن تستحيل وعيًا جماعيًا يضبط العقل العميق لمجموعة أو جماعة أو أمة. الثابث في المتحولات تلك هو العطش. عطشٌ للحرية. للكرامة. للدولة. للعدالة. لعزة النفوس. وبعض العطاشى لا يرتوون إلا بماء العيون.

لم تكن معركة أردوغان سوى نافذة هؤلاء على الصراخ في وجه تعميم الصمت وكيّ الذاكرة وكمّ الأفواه، ولم يكن انتصاره سوى انتقامهم الهائل والمدوّي من تراكمات بشعة لا يتسع لذكرها المكان. يكفي أن نبدأ من حرق رفيق الحريري بطنيّن كاملين من المتفجرات، وما سبقه ولحقه من نعوش ورجالات وعواصم وكرامات، وصولاً إلى مشهدية العار في قمة جدة، هناك حيث وقف بشار الأسد محاضرًا وخطيبًا ومزهوًا وشامتًا، على وقع الترحيب والتقبيل والاحتضان والتصفيق العاصف.

لاحقًا، يأتيك غافل من هنا أو متحاملٌ من هناك، ليأخذ على السنّة انجرافهم العفوي والجماعي نحو الاحتفاء بانتصار اردوغان بعد معركة شرسة وقاسية ومضنية، وهم إذ ينسون كبوة هؤلاء ومظلوميتهم المستدامة منذ عقودٍ عجاف، يتناسون أيضًا أن المتحركات الكبرى التي شهدتها المنطقة على مدى سنوات خدّاعات، وضعت الوجدان السني العارم أمام هزيمة مهولة لا يُشق لها غبار، حيث صار لزامًا عليهم أن يبحثوا، ولو في مخيّلتهم، ليس عن قائد أو زعيم أو حكيم أو بطل أو حاذق أو شجاع، بل عمّن يستطيع فقط أن يروي عطشهم المزمن، ولو من ماء عينيه.

يشعر هذا العقل الجماعي أن معتقداتهم صارت تهمة، وأن أحدًا ليس يجرؤ على ممارستها أو الاشهار بها، وكأنها استحالت صنو الرجعية، في تعبير هو الأكثف عن انعدام الشخصية وشطب الذات والخجل المستدام، حالهم في هذا حال أولئك الذين يتدافعون نحو تقديم أوراق اعتمادهم وفق منظور مستورد ومُعلّب ومشوّه عن الانفتاح، ولا وفق ما أرسته أديانهم وتقاليدهم وسلوكيات مجتمعاتهم على مدى عشرات القرون.

يقول قائل منهم: شتان بين هؤلاء وبين رجلٍ نهضوي حداثوي يخرج إلينا مُكللاً بذاته. معتزًا بدينه وإيمانه وتقاليده وأصالته وقيمه ومبادئه ومشروعه. يصطحب زوجته دون أن يخجل بحجابها أو احتشامها. ثم يُردد على مسامع من يسمع، أنه على هذا النحو كان وسيبقى، وأنه غير معني بتقديم أوراق اعتماده لأحد.

يقول آخر: شتان بين هؤلاء الذين يحترفون الغرق في كل مستنقعات الفشل والتخبط والعشوائية والارتهان والارتجال، وبين رجل امتهن النجاح على مدى ربع قرن، ثم رفع بلاده إلى مصاف دول العالم الأول، هناك حيث يتنافس المتنافسون في الاقتصاد وفي الازدهار وفي الصناعة وفي العلوم وفي الابتكار وفي صون كرامة الإنسان، بينما تهوي بلادنا بقدها وقديدها نحو جحيم بلا قرار.

يخرج السنّي من بلاده الرثة تواقًا إلى ذاك الحلم الذي ما برح يدغدغ عميق ذاته. يستشعر كبوته وأزمته وانزلاقه في أتون تلو نفق تلو فجيعة. ثم ينتظر كل عمره على رصيف المنتظرين. ليس في الأفق عربًا ولا عروبة. وليس فيهم إلا لاهث خلف فتات تركته الأمم على موائدها. أو مهرول خلف شرعية مصطنعة وخلف سياسات رعناء ليست تستند إلا الى شخصنة أو حقد أو رجعية أو إفلاس.

يخرج السني من بلاده المنكوبة تواقًا إلى الضوء. يخرج من أقبيته وقوقعته وهزيمته وضعف حيلته وهوانه على الناس. يخرج ليعانق الانتصارات البعيدة. يلوّح بيديه الخشنتين وكأنه يطلب انتشاله من بحر الجثث وبحر الهزائم وبحر الدماء وبحر الدموع. انتصار اردوغان هو ذاك كله في لاوعيهم الجماعي. وهو اليقين الوحيد الذي ما ارتقى اليه شكٌ وما ساورته شكوك.

على الرجل أن يسمع صراخهم. أن ينصت إلى أنينهم. أن يسارع إلى انصافهم واحتضانهم ورفع مظلوميّتهم وتعبيد طريقهم نحو الأمل الذي عصروه حتى آخر نقطة. هم قالوا بلسان اليائس والبائس والمكلوم والموجوع، إن مهمتك ما عادت محصورة بالجغرافيا والخرائط. وإن رئاستك وزعامتك لا بد وأن تتوسّع لتطال عموم العطاشى الذين كفروا بكل سرديات العرب وسياساتهم وسلوكياتهم وأدبياتهم وأحضانهم وصغائرهم، وصاروا يبحثون عن عملاق يخوضون البحر في ركابه، غير آبهين إلا بما يحفظ كرامتهم ويؤكد عزتهم ويرفع شأنهم بين الأمم.

سنة لبنان متركون للفراغ. للضياع. للاضمحلال والتصحر واليباس. تصالحت المنطقة فوق جماجمهم الطرية. وسارع كل ذي حاجة إلى التقاط حاجته بأنانية مُستفزة وقاهرة ومباغتة. تركوهم عُراة في منتصف الطريق. وكأنهم مجرد خدم أو أدوات تم استخدامها في معارك الآخرين. ثم عاجل راعيهم إلى رميهم كالنعاج في فم الأسد. غير عابئ بهم ولا بكرامتهم ولا بمستقبلهم ولا بمستقبل بلادهم.

سنة لبنان يذهبون اليك والخيبة مزروعة في نواصيهم. والنعوش تتدلى فوق أكتافهم. واليائس يسلك أسرع الطرق إلى نفوسهم. فلا تتركهم. ولا تشح بنظرك عنهم. وتذكر أن تصفير المشاكل مع الدنيا لا بد وأن يبدأ بحل مشاكلهم.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة