"ليبانون ديبايت" - بسّام صرّاف
من يقرّر؟ المواطن أم دفتر الشروط الطائفي؟
المواطن ينتخب… والطائفة تُعيّن
في أيار 2025، وبينما كانت صور صناديق الاقتراع تملأ الشاشات وتُغدق نشرات الأخبار بتقارير عن “العرس الديمقراطي”، كان اللبنانيون يتوجّهون إلى أقلام الاقتراع، مثقلين بالأمل، منهكين بالخيبة، ومرغمين على تكرار الطقوس نفسها التي لم تغيّر شيئًا منذ عقود. صوتوا، نعم، لكن لمن؟ هل حقًا كانوا يختارون؟ أم أنهم فقط يُباركون لوائح مفروضة عليهم كما تُفرض الضرائب والولاءات والخرائط الطائفية؟
وراء الكواليس، كانت النتائج قد كُتبت بالحبر الطائفي السريّ. اسم الفائز معروف مسبقًا، والمجالس مركّبة كقطع البازل، توزَّع في الغرف المغلقة على قاعدة “هذا لي، وهذا لك، والباقي على الله”.
الديمقراطية في لبنان ليست سوى مشهد ديكوري ضمن مسرحية اسمها “العيش المشترك” وسيناريوها مكتوب في مكاتب الزعماء. المواطن يُستدعى يوم الاقتراع ككومبارس… ثم يُعاد إلى صمته حتى إشعار طائفي آخر.
أما البلديات، فبدل أن تكون مؤسسات الشعب في إدارة شؤونه اليومية، تحوّلت إلى أدوات تصريف زبائنية، تُدار بالولاء لا بالكفاءة، وتُعطَّل إذا ما تجرّأت على العصيان.
فمن يحكم فعلًا؟ المواطن الذي ينتخب؟ أم الزعيم الذي يعيّن؟
من يقرّر مصير الشارع، المشروع، المدرسة، النفايات، والنور؟ البلديات التي يُفترض بها أن تكون خط الدفاع الأول عن الإدارة العامة… أم “المرجعية” التي لا يُمكن تزفيت شارع من دون رضاها؟
في لبنان، الانتخابات لا تحرّر القرار… بل تكرّس الوصاية.
من يحكم فعليًا؟ المواطن أم الوصي؟
نظريًا، تشكّل البلديات خط الدفاع الأول في الإدارة العامة. عمليًا، هي مؤسسات مكبّلة، تتبع القرار المركزي وتُدار بالولاء لا بالكفاءة.
• شارع لا يُعبَّد إلا بإذن.
• مشروع لا يُنفَّذ إلا بترضية.
• مصباح لا يُضاء قبل دفع الإتاوة.
وفق تقرير البنك الدولي – Lebanon Economic Monitor (أيلول 2023):
• 70% من قرارات البلديات تُجمَّد إداريًا في الوزارات.
• 85% من المشاريع المتعثّرة تعود إلى “تعقيدات سياسية وإدارية”.
المال متوفّر، لكن القرار مسروق. الفقر يُدار كأداة ولاء، لا كمشكلة تتطلب حلولًا.
اتفاق الطائف: وعود اللامركزية المغدورة
وعد اتفاق الطائف (1989) اللبنانيين بإدارة لامركزية تنموية. لكن منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لم تشهد البلاد أي مسار إصلاحي جدّي يترجم ذلك الوعد إلى واقع.
• لا تمويل مستقل.
• لا صلاحيات تنفيذية.
• لا إدارة ذاتية.
النتيجة؟ بلديات تتحوّل إلى “جامعي نفايات”… لا حكومات محلية.
بلديات العالم تحكم… وبلديات لبنان تُعطّل
في الدول الديمقراطية، البلديات تخطّط وتنفّذ وتُنفق بحرية:
البلد دور البلديات المصدر
كندا تنفق 60% من ميزانية الخدمات – ضرائب محلية = 10% من الناتج OECD 2023
ألمانيا مسؤولة عن 30% من الإنفاق العام – بإدارة مستقلة GIZ 2022
سويسرا تشرّع وتنفّذ بلا وصاية مركزية FSO 2023
المغرب المجالس البلدية تدير الصحة والتعليم والتنمية WB 2022
أما في لبنان؟
• البلديات لا تتحكّم بأكثر من 6% من مجمل الإنفاق العام (الدولية للمعلومات – نيسان 2024)
غياب اللامركزية = تعميم الانهيار
لم يقتصر الانهيار اللبناني على المالية العامة، بل طال بنية القرار الإداري والاقتصادي:
• 90% من الإنفاق العام يُقرّ في العاصمة (OECD 2023)
• الأطراف بلا صلاحيات ولا قدرة على إطلاق مشاريع تنموية
• صندوق النقد الدولي (2023): غياب الحكم المحلي يعرقل أي خطة تعافٍ
النتيجة؟
الاقتصاد المحلي مشلول، المبادرات مدفونة، والفقر يتغذّى من غياب القرار أكثر مما يتألم من غياب المال.
حالات نموذجية من “البلدية المخطوفة”
• الضنية: مشروع صرف صحي تعطّل لعامين بسبب رفض رئيس البلدية دفع “إتاوة” سياسية (المدن، تموز 2023)
• زحلة: محطة تكرير مؤجّلة رغم تمويلها، بسبب نزاع مرجعي على تبنّي المشروع
• الجنوب: مرشّح مستقل انسحب بعد تلقيه تهديدًا مباشرًا: “اللائحة مقفلة”
هذه ليست استثناءات… بل القاعدة.
خارطة طريق: قانون شعبي ضد الهيمنة
1. قانون لا مركزية إدارية ومالية موسّعة
• سلطة محلية مستقلة إداريًا وماليًا
• نقل الصلاحيات التنفيذية والضريبية إلى البلديات
• تقسيم إداري على أساس التنمية لا الطوائف
نص مقترح:
“تنشأ سلطة محلية تمارس صلاحياتها ضمن نطاقها الجغرافي وفق قانون خاص، وتتمتع باستقلال إداري ومالي كامل.”
2. قانون بلدي جديد
• صلاحيات في الصحة، البيئة، التعليم، النقل
• إلغاء وصاية المحافظ
• تشريع محلي وخطط تنموية
• اتحادات بلدية لا طائفية
3. استقلال مالي
• جباية مباشرة
• إلغاء الصندوق البلدي المختطَف
• هيئة مالية محلية مستقلة
4. جهاز بلدي محترف
• مدرسة وطنية للبلديات
• شراكات مع GIZ، UNDP، والجامعات اللبنانية
5. رقابة مدنية رقمية
• لجان أهلية
• لوحات أداء رقمية
• تقارير مفتوحة للمواطنين
6. قانون انتخاب بلدي عصري
• نظام نسبي
• إشراف محلي ودولي
• حماية حق المستقلين
7. إدارة محلية منظّمة لملف النزوح السوري
الهروب من ملف النزوح السوري بحجة “القرار الدولي” هو عذر أسوأ من الخطيئة. البلديات اليوم عاجزة عن إحصاء القاطنين على أرضها، فكيف تُحاسَب أو تُخطّط وهي لا تملك بيانات دقيقة، ولا تملك صلاحية تنظيم الوجود البشري داخل نطاقها؟
المطلوب:
• إجراء إحصاء بلدي دوري وشامل لكل القاطنين، وربطه برخص الإيجار، وعدّادات الكهرباء، والخدمات.
• تنظيم وجود النازحين بناءً على قدرة البنية التحتية والموارد المتاحة.
• فرض فترة إقامة قانونية مؤقتة لكل نازح، تتجدّد ضمن معايير موثّقة.
• ترحيل كل نازح غير شرعي أو مخالف، بالتنسيق مع وزارة الداخلية، الأمن العام، وأمن الدولة ضمن خطة واضحة وجدول زمني.
• منع التوطين المقنّع عبر تشديد الرقابة على البناء والتراخيص.
• إنشاء لجان بلدية – أمنية لضبط الفوضى وتحديد المسؤوليات.
• إعادة صياغة العلاقة مع المنظمات الدولية على قاعدة جديدة: التمويل مقابل تنظيم الترحيل، لا مقابل تعويم الفوضى.
كل نازح خارج الإحصاء = خطر ديموغرافي
كل بلدية صامتة = متواطئة
كل مسؤول يتجاهل الملف = شريك في التوطين التدريجي
إلى من يهمّه الأمر
إلى الزعماء:
أنتم لا تخشون البلديات… بل تخافون أن يقرّر المواطن بنفسه.
إلى المواطنين:
كل مشروع مؤجّل هو سرقة موقّعة باسمك.
لا تنتظر من زعيم لا يعرف اسم شارِعك… أن يبني لك بلدًا.
من كل بلدة… اخرجوا:
• شكّلوا لجان ظل
• وثّقوا بالصوت والصورة
• حوّلوا البلديات من “أدوات سياسية” إلى “منصّات قرار محلي”
كل شارع مظلم = جريمة سياسية
كل مشروع مؤجّل = سرقة مشروعة
كل بلدية صامتة = متواطئة
من المعركة البلدية إلى معركة القرار الوطني
ما يحصل في البلديات ليس مجرد تلكّؤ إداري، ولا مجرد تعطيل خدمات، بل هو تعبير صارخ عن تفكيك الدولة من جذورها. عندما تُختطف المجالس المحلية، وتُفرَض اللوائح من فوق، ويُمنَع المستقلون من الترشّح أو يُحارَبون كما يُحارَب الخارجون عن الصفّ، يصبح المواطن مجرد رقم في صندوق، لا صاحب قرار في المصير.
كل بلدية صامتة… هي شريك في خراب الدولة.
كل رئيس بلدية يرضخ للمرجعية… هو شاهد زور على اغتصاب القانون.
ولهذا، فإن المعركة على اللامركزية لا يمكن أن تُختَزل في بند تقني داخل ورقة إصلاحية. هي معركة سياسية وطنية بامتياز، معركة استعادة القرار السيادي من الطائفة إلى الشعب، من المركز المختنق إلى الأطراف المحرومة، من الزعيم إلى المواطن.
فكما يبدأ البناء من الأساس لا من السقف، كذلك يبدأ الإصلاح من الحيّ، من الحارة، من الحوض الصحي، من الحائط المهدم، من المدرسة المقفلة. الدولة تُبنى من الأسفل إلى الأعلى، لا العكس.
إذا لم نحرر البلديات من القبضة السياسية، لن نحرر شيئًا. وإذا لم نحمِ قرار الحيّ، لن نحمِ حدود الوطن.
إنها معركة على النور، على الماء، على الشارع، على الوظيفة، على العدّاد، على الحق في أن تعرف كم مواطنًا وكم نازحًا يسكن في حيّك… على الحق في أن تقول: هذا بلدي، وهذا قراري.
في لبنان اليوم، لا مركزية يعني لا وطن.
لا بلدية حرّة؟ لا جمهورية حقيقية.
لا قانون انتخاب عصري؟ لا قرار شعبي.
الخيار واضح:
إما أن نكسر الأقفال الموضوعة على صناديق البلديات، أو نبقى أسرى في صندوق الزعيم.
البلدية هي أول ساحة، وآخر ما تبقّى من جبهة.
إما أن نربحها… أو نخسر البلد.