"ليبانون ديبايت" – المحرر السياسي
ليس خافيًا على أي مراقب نزيه أن الدعوات التي يتم اطلاقها للتطبيع مع العدو الإسرائيلي ليست سوى رأس جبل الجليد لعملية ممنهجة، مموّلة ومبرمجة من الخارج ومرتبطة ارتباطا وثيقا ب لوبيات يهودية، هدفها الأساسي كسر المحرّمات التاريخية والأخلاقية التي حكمت علاقة لبنان بهذا الكيان المعتدي المسمى اسرائيل.
فالمسألة لا تبدأ من معاهدات توقّعها الحكومات في وضح النهار، بل من مشروع طويل الأمد ينطلق بهدم الحاجز النفسي والأخلاقي الذي ظلّ يشكّل صمّام أمان في وعي اللبنانيين الجماعي تجاه هذا العدو. ويُدار هذا المشروع بخبث بالغ عبر حملات إعلامية وسياسية منظمة يُراد منها تطبيع فكرة التطبيع ذاتها حتى يتعوّد المواطن اللبناني على سماعها فلا تعود تستفزه، ثم يبدأ بتداولها في النقاشات اليومية وكأنها خيار طبيعي أو حتى حاجة ملحّة للخروج من أزمات البلد الداخلية.
وهنا تكمن الخطورة الحقيقية: عملية كسر المحرّمات لا تحصل دفعة واحدة ولا تُفرض بالعنف، بل تُسلَّل إلى العقول عبر أسئلة ظاهرها «جرأة فكرية» وباطنها إلغاء الضمير الوطني، ثم تتوالى المقالات والمقابلات الاعلامية التي تطرح «فوائد السلام» فتُظهِر من يروّج للتطبيع على أنهم «صوت العقل» في مواجهة ما يسمّونه «الجمود» أو «الشعارات». لكن الحقيقة أن كل ذلك يجري تحت رعاية وتمويل جهات خارجية معروفة الأهداف، تستثمر في الإعلام والسياسة لتكسير الحاجز النفسي والأخلاقي، وجرّ اللبنانيين خطوة بخطوة نحو القبول بما كان محرّمًا ومرفوضًا جملة وتفصيلًا.
الأدهى من ذلك أن هذه الحملة الإعلامية التي تسعى إلى جعل التطبيع مقبولًا لدى عامة الناس لا تُواجَه حتى الآن برد قضائي يرقى إلى مستوى الجرم المرتكب. أين القضاء اللبناني من كل ذلك؟ أين القضاء العسكري الذي يُفترض به أن يحمي الأمن القومي، وأين النيابة العامة التمييزية التي تهرع أحيانًا خلف تغريدة أو منشور صغير لكنها تغضّ الطرف عن حملات علنية تمهّد للتطبيع مع عدو ما زال يحتل أرضنا، ويقصف قرانا ومدننا، ويحتفظ بأسرى وشهداء، ويزرع كل يوم القتل والدمار؟
ما يجري في لبنان اليوم باسم «السلام» ليس سوى عملية كسر ممنهجة للمحرّمات الأخلاقية والوطنية،إذ يراد منها تدريب الوعي اللبناني على التعايش مع فكرة التطبيع حتى لا تصير صادمة لاحقًا إذا ما جرى فرضها رسميًا. وكل محاولة للتساهل أو غضّ النظر عن هذه الحملة، سواء من الجهات القضائية أو السياسية أو حتى من الرأي العام، ليست أقل من تواطؤ مع مشروع خطير على الهوية والسيادة والذاكرة الجماعية.
إن لبنان الذي لا يزال حتى اليوم يلملم أشلاء شهدائه من تحت أنقاض البيوت التي دمّرتها آلة الحرب الإسرائيلية، والذي يعيش على وقع تهديدات دائمة بالقصف والاجتياح، لا يملك ترف التلهّي بنقاشات وهمية حول تطبيع مرفوض في الجوهر والوجدان، ولا التهاون مع مَن يروّج لهذا المسار الذي يقوّض ما تبقّى من كرامة وطنية. لهذا نقول بوضوح: التطبيع لم يبدأ بالمعاهدات، بل بدأ يوم شرعت بعض الأصوات في كسر المحرّمات باسم السلام، والسكوت عن هذا المسار يكاد يرقى إلى خيانة وطنية موصوفة.