لم تحمل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى بريطانيا طابعًا بروتوكوليًا فحسب، بل كشفت عن تحولات جوهرية في مسار العلاقات الأوروبية-الأطلسية، في ظل سعي باريس ولندن إلى بناء شراكة دفاعية استراتيجية أكثر استقلالًا عن الهيمنة الأميركية. في خطاب نادر أمام البرلمان البريطاني، شدد ماكرون على ضرورة رسم مسار مشترك مع لندن يقوم على استقلال القرار الأوروبي، بعيدًا عن التأثيرات الأميركية والصينية، بالتزامن مع تصاعد التهديدات الروسية في أوكرانيا والتي تدفع أوروبا لإعادة صياغة معادلة أمنها الجماعي.
وقد تصدّر الملف النووي جدول المحادثات بين ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، في ظل توافق على تنسيق عمل ترسانتي البلدين النوويتين لمواجهة أي تهديد داهم. وأكد ستارمر أن الجانبين يستعدان لتنسيق الردع النووي عند الضرورة مع الحفاظ على استقلالية القرار في كلا العاصمتين. من جهته، اعتبر وزير الدفاع البريطاني جون هيلي أن هذه الشراكة تبعث برسالة ردع واضحة إلى الخصوم، مفادها أن لندن وباريس تتحركان ضمن جبهة موحدة في مواجهة أي خطر إستراتيجي.
التحول الفرنسي في الملف النووي بدا أكثر وضوحًا حين عبّر ماكرون في وقت سابق عن استعداد بلاده لنشر طائرات نووية في ألمانيا، في خطوة تُقرأ كإشارة إلى تآكل الثقة الأوروبية بالحماية النووية الأميركية. وبحسب مركز "تشاتام هاوس"، تملك فرنسا حاليً290 رأسًا نوويًا، مقابل 225 لبريطانيا، علماً بأن الترسانة الفرنسية أكثر استقلالًا من البريطانية التي تبقى لوجستيًا مرتبطة بالبنية الدفاعية الأميركية.
وترى أوساط بحثية أوروبية أن هذا التوجه يعكس نقاشًا بات علنيًا حول تطوير قدرة ردع أوروبية مستقلة، في ظل تراجع الاعتماد على الالتزامات الأميركية. في هذا السياق، أعلنت باريس ولندن عن مشروع مشترك لتطوير صواريخ "كروز" نووية جوية، وسط مخاوف من أن تبعية لندن للبنية التحتية الأميركية قد تعيق التنسيق الكامل مع فرنسا.
رغم هذا التقارب اللافت، لا تزال باريس تستحضر تداعيات حادثة إلغاء صفقة الغواصات النووية مع أستراليا عام 2021 بوساطة أميركية-بريطانية، فيما تواصل لندن الاعتماد على الصناعات الدفاعية الأميركية في تحديث أسطولها النووي. خلال الزيارة، وُقّعت النسخة الثانية من معاهدة "لانكاستر هاوس" لتعزيز التعاون الأمني والعسكري، وسط توافق على تبادل الخبرات في الصناعات الدفاعية.
في سياق آخر، يسعى ماكرون وستارمر إلى تجاوز تداعيات البريكست عبر مشاريع أمنية وتجارية مشتركة، أبرزها اتفاق دفاعي-تجاري أُبرم في أيار الماضي يتيح لبريطانيا الاستفادة من تمويلات أوروبية لتطوير البنية العسكرية. ويرى مراقبون أن حكومة حزب العمال الجديدة بقيادة ستارمر تحاول إعادة صياغة الدور البريطاني الأوروبي عبر علاقات أكثر انفتاحًا، وهو ما تنظر إليه باريس بإيجابية.
غير أن هذا التقارب لا يخفي الارتباك الأوروبي إزاء الموقف الأميركي، خصوصًا في ظل سياسات الرئيس دونالد ترامب، ما دفع باريس ولندن إلى قيادة "تحالف الراغبين" لتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، مع نقل مقر القيادة إلى باريس، تحسبًا لتوقيع اتفاق وقف إطلاق نار مستقبلي. غير أن التقارير تشير إلى أن التحالف بدأ يفقد زخمه مع تصاعد الهجمات الروسية وتباطؤ الدعم الأميركي، ما يضع الحلفاء الأوروبيين أمام تحديات متزايدة.
وتُجمع التحليلات على أن ترامب، رغم تعهداته في قمم الناتو، لم يعد شريكًا موثوقًا في عيون الأوروبيين، ما يعزز الحاجة لتقوية الجبهة الدفاعية الذاتية، خاصة في ظل استمرار النزاعات وتهديدات الأمن القومي. في هذا الإطار، تبرز فرنسا بوصفها رأس حربة في مشروع "الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي"، في وقت تتعرض فيه هذه الرؤية لضغوط متصاعدة من الأحزاب الشعبوية والانفصالية داخل أوروبا، فضلاً عن النزعة الانعزالية التي يمثلها ترامب على المستوى العالمي.