“ليبانون ديبايت”
في وقت يرزح فيه اللبنانيون تحت أثقال الأزمات المعيشية والمالية، تطلّ وزارة الاتصالات بسياسات وقرارات تزيد من هموم المواطنين وتثقل كاهلهم. ففي الأيام الأخيرة، فوجئ كثيرون برسائل نصية على هواتفهم الخلوية تفيد بعدم تسديد الرسوم الجمركية المفترضة على أجهزتهم، ما أدى إلى وقف تشغيلها تلقائياً إلى حين الدفع. خطوة وصفتها أوساط قانونية بأنها تعسّف غير مسبوق، إذ إن قانون الجمارك واضح وصريح: الهواتف الخلوية المخصصة للاستعمال الشخصي تُصنّف في خانة “المتعلقات الشخصية”، وهي معفاة حكماً من أي رسم أو جمرك.
المفارقة تكمن في أنّ المواطن الذي يشتري هاتفاً من الخارج بقيمة ألف دولار يُطالَب بجمركته عند دخوله إلى لبنان، فيما من يشتري حقيبة يد بقيمة عشرين ألف دولار من الخارج ويتم إدخالها معه لا يُفرض عليه أي رسم جمركي. هذا التناقض الفاضح يكشف أن الهدف ليس حماية الخزينة أو تطبيق القانون، بل ابتزاز منظم للمواطنين عبر سياسات تعسفية وانتقائية.
القضية ليست جديدة. ففي العام 2019 فوجئ المحامي روي مدكور، العائد من باريس بجهاز “iPhone XS Max”، برسالة نصية من وزارة الاتصالات تطالبه بتسديد رسوم جمركية تحت طائلة حرمان هاتفه من الشبكة. وبعد مراجعته “ليبان بوست”، تبيّن أن الوزارة حدّدت تسعيرة وهمية للهاتف، وفرضت رسوماً غير مبررة قانوناً تتضمن “رسم خدمة” و”أجوراً” وضريبة قيمة مضافة. عندها وجّه مدكور كتاباً إلى وزير الاتصالات محمد شقير، طالب فيه بتوضيح الأساس القانوني لهذه الجباية، من دون أن يتلقى أي جواب. لاحقاً رفع استيضاحاً إلى المديرية العامة للجمارك التي ردّت بكتاب رسمي مؤرخ في 16/12/2019 وقّعه المدير العام بدري ضاهر، مؤكداً أنّ جباية الرسوم الجمركية على الهواتف الخلوية الشخصية مخالفة للدستور وقانون الجمارك.
الكتاب استند إلى المادة 89 من الدستور التي تحظر منح أي التزام أو امتياز لمرفق عام أو مورد طبيعي إلا بقانون، وإلى المواد 1 و53 و138 و166 و167 من قانون الجمارك، إضافة إلى المادة 34 من المرسوم الاشتراعي 82/1982، وإلى المادة 367 من قانون الجمارك التي تنص على الإعفاء الكامل من الرسوم الجمركية للإرساليات الشخصية والهدايا وأجهزة الهاتف. وقد اعتبرت الجمارك أن وزارة الاتصالات تجاوزت صلاحياتها عبر مذكرة تفاهم مع “ليبان بوست” لتحصيل الرسوم، في مخالفة صريحة لصلاحياتها الحصرية.
اليوم يتكرر المشهد نفسه، لكن تحت إشراف وزير الاتصالات الحالي شارل الحاج، الذي يبدو أنه يكمل سياسة أسلافه في انتهاك القوانين وتجاوز صلاحيات الجمارك. بدل أن تتوقف الوزارة عن ممارسة هذه الجباية غير القانونية، ها هي تعود لتفرض الرسوم ذاتها على المواطنين، معطّلة هواتفهم حتى الدفع.
وإلى جانب التعسّف، يبرز الجهل التقني أيضاً. إذ تبيّن أن أي جهاز متوقف يمكن إعادته إلى العمل بمجرد استبدال الـSIM Card بـeSIM، ليعود الهاتف إلى الشبكة وكأن شيئاً لم يكن. هذه الثغرة التقنية تكشف حجم التخبط في أداء الوزارة، وتشكل دعوة للمواطنين الذين وقعوا ضحية هذا الإجراء الجائر للاستفادة من هذه الوسيلة المؤقتة عبر تحميل الـeSIM من شركتي الخليوي لتخطّي قرار الوزارة. ومع ذلك، نحن على يقين بأن وزارة الاتصالات ستسارع إلى حجب هذه الإمكانية لاحقاً، لكن في الوقت الراهن، وحتى مراجعة الإدارات الرسمية التي يُفترض أن توقف هذا القرار الظالم، تبقى هذه الطريقة وسيلة متاحة لتجاوز تعسّف الوزارة والاحتيال على جهلها.
إنّ ما يحصل هو تعدٍّ سافر على القانون وصلاحيات الجمارك، واعتداء مباشر على حقوق المواطنين. الهواتف الخلوية المخصصة للاستعمال الشخصي متعلقات شخصية لا تخضع لأي جمرك. ومع ذلك، تستمر وزارة الاتصالات بنهجها القائم على الجباية غير القانونية، لتثبت أنها شريك أساسي في مسلسل الانتهاكات الذي لم يتوقف منذ سنوات. ويبقى السؤال: من يعيد للمواطنين حقوقهم؟ ومن يضع حداً لاستنسابية وزارة الاتصالات التي حولت الهواتف الشخصية إلى باب جديد من أبواب الابتزاز الموصوف؟