"ليبانون ديبايت"
بينما اختارت وزارة الطاقة إصدار بيان مطوّل تحاول من خلاله تبرير مسار ملف الباخرة HAWK III بالتواريخ والإجراءات الشكلية، تكشف الوقائع أن الحقيقة أكثر خطورة وتعقيدًا. فالملف لا يقتصر على نتائج مختبرات أو مراسلات إدارية، بل يرتبط مباشرة بفضيحة تزوير منشأ، وبتورط مستشاري الوزير في حماية الشركات المورّدة بدلًا من حماية المال العام.
منذ اللحظة الأولى لانكشاف الفضيحة على يد المهندس فوزي مشلب و”ليبانون ديبايت”، كان المتوقع أن تتحرك الوزارة لمعاقبة المتورطين ووقف التعامل معهم. إلا أن ما جرى كان العكس تمامًا: تسخير كامل أدوات الوزارة، إلى جانب “الجيش الإلكتروني” التابع للقوات اللبنانية، لتشويه صورة كاشفي الفساد، وصولًا إلى التهجّم على مسؤولي الجمارك الذين أدوا واجبهم بحرفية.
الوقائع القضائية والإدارية أثبتت أن ثلاث شركات – BB Energy، Sahara Energy، وIplom International SA – أحكمت قبضتها على مناقصات توريد الفيول والغاز أويل منذ عام 2023. الأدلة التي قُدمت إلى الجمارك أظهرت أن 23 ناقلة غيّرت منشأها عبر مرافئ وسيطة كمرسين وبورسعيد لتغطية المصدر الروسي الحقيقي. ومع ذلك، وبدل أن تتحرك الوزارة لوقف التعاقدات، واصلت هذه الشركات نشاطها محميةً بغطاء سياسي ووزاري واضح.
القضاء اللبناني، عبر النائب العام المالي القاضي ماهر شعيتو، اتخذ خطوة حاسمة بتجميد ما يقارب 12 مليون دولار ومنع دفع مستحقات لشركة Iplom International SA، بعدما تبيّن أنها باعت لبنان فيولًا روسيًا بسعر 70 دولارًا للبرميل، أي أعلى بكثير من السقف الدولي البالغ 45 دولارًا. غير أن الوزارة لم تلتزم بالمنطق نفسه، بل مضت في توقيع عقود جديدة، وسلّمت Sahara Energy شحنات فيول عراقي بقيمة 40 مليون دولار مقابل كفالة هزيلة لا تتعدى 4 ملايين.
الأخطر أن الوزارة سمحت بدخول الناقلة HAWK III المحمّلة بفيول روسي قيمته الفعلية لا تتعدى 13 مليون دولار، لكنها قدّمت فواتير مزوّرة بـ20 مليونًا. هذه الصفقة ما كانت لتُكشف لولا تدخّل الجمارك، التي ضبطت الباخرة بالجرم المشهود بعد محاولتها إخفاء المنشأ عبر توقف شكلي في مرسين.
ذروة الأحداث كانت مع محاولة تهريب الباخرة HAWK III ليلًا بعد تفريغ حمولتها في معمل الجية. القبطان أطفأ أجهزة التتبع وحاول مغادرة المياه اللبنانية، لكن تدخل الجيش والجمارك أفشل العملية. مطاردة بحرية على بعد 30 ميلًا بحريًا، إطلاق نار مباشر، وإنزال لمغاوير البحر بمؤازرة الطوافات العسكرية… كلها مشاهد لم يكن للبنانيين أن يتخيلوها لولا حجم التواطؤ والتسهيلات التي نالتها الشركة المورّدة.
البيان الأخير للوزارة حاول تغطية الفضيحة بالتذرع بنتائج مختبرات أوروبية وبذريعة “تجنّب العتمة”، متجاهلًا أن القانون يمنع تفريغ أي حمولة انطلقت من ميناء تحميل بحري (offshore) خارج المرافئ الرسمية. كما حاول رمي كرة المسؤولية في ملعب الأجهزة الأمنية في ما يخص هروب الناقلة، متناسيًا أن الوزارة هي التي أصرّت على تفريغها رغم ثبوت التزوير.
الأدهى أن البيان استعرض أرقامًا عن ناقلات روسية دخلت لبنان في السنوات الماضية، وكأن الهدف تبرير الاستمرار بالنهج نفسه بدل وضع حدّ له. أما الحديث عن “انتظار نتائج القضاء” فلم يعد يقنع أحدًا، بعدما ثبت أن الوزارة نفسها هي من تواطأت مع الشركات المخالفة ووفرت لها العقود.
القضية لم تعد لبنانية فقط. فالخزينة الأميركية، مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، والاتحاد الأوروبي يتابعون الملف بدقة، وطلبوا تزويدهم بكامل المستندات المتعلقة بالشركات الثلاث. ومع اقتراب لحظة تسليم الوثائق رسميًا، بات واضحًا أن العدّ العكسي بدأ لمحاسبة دولية قد تتجاوز حدود ما تحاول الوزارة طمسه بالبيانات والتبريرات.
وزارة الطاقة، التي يُفترض أن تكون حارسًا للمال العام، تحولت في هذا الملف إلى مظلة تحمي الشركات المخالفة وتهاجم كل من يفضح الفساد. البيان الأخير لم يكن سوى محاولة التفاف فاشلة على وقائع دامغة. وبدل أن تعترف الوزارة بمسؤوليتها وتبادر إلى فسخ العقود ومحاسبة المستشارين المتورطين، فضّلت رمي التهم وشن الحملات الإعلامية.
الفضيحة اليوم بين أيدي القضاء اللبناني والجهات الدولية، واللبنانيون أمام مشهد واضح: وزارة طمست القانون، شركات احتكرت السوق، وأجهزة أمنية خاضت معركة بحرية لحماية ما تبقّى من هيبة الدولة.