تشهد العلاقة بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مرحلة غير مسبوقة من التقارب السياسي والعسكري، في ظل سلسلة اجتماعات وتفاهمات ميدانية تعكس رغبة مشتركة في حل الخلافات العالقة.
فبعد أعوام من الشكوك واختبار النوايا، يبدو أن الطرفين انتقلا إلى مرحلة التنفيذ لا التجريب، وسط مؤشرات على توافق تدريجي بشأن قضايا السيادة والدمج الأمني والاقتصادي.
وفي أحدث فصول هذا التقارب، عقد وفد من الحكومة السورية اجتماعًا مع ممثلين عن "قسد" في مدينة الطبقة، تناول التطورات الأخيرة في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب. وأكدت "قسد" عقب الاجتماع أنها سلّمت عددًا من المعتقلين لديها إلى الحكومة السورية، مشددة على أهمية استمرار الحوار لضمان الاستقرار ووحدة الأراضي السورية.
وجاء هذا اللقاء بعد خطوات ميدانية تمثلت في استعداد "قسد" للتعاون مع دمشق في ملفات حساسة، أبرزها تسليم إنتاج النفط من حقول دير الزور إلى الحكومة السورية، بناءً على تفاهمات شفهية بين الرئيس أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي خلال لقاء جمعهما في دمشق الأسبوع الماضي.
وتشير هذه التفاهمات إلى أن "قسد" ستحتفظ بنسبة من الإنتاج لتغطية احتياجات السوق المحلي، في حين تتولى الحكومة إدارة الحقول كجزء من خطة أوسع لإعادة دمج المناطق الشمالية الشرقية ضمن مؤسسات الدولة.
وتتحدث مصادر محلية عن أن عملية دمج المناطق الخاضعة لـ"قسد" ستبدأ من دير الزور وتشمل في مراحلها الأولى حقول النفط والمؤسسات المدنية ثم القوات العسكرية والأمنية، تمهيدًا لمسار أكثر شمولًا.
إلا أن هذا المسار يواجه تحديات واقعية تتعلق بهيكلية "قسد" وتنوع مكوناتها العرقية والتنظيمية.
ويعد ملف انضمام "قسد" إلى الجيش السوري من أبرز القضايا الحساسة بين الجانبين، إذ يشكل بحسب مراقبين اختبارًا لإرادة الطرفين في بناء مؤسسات موحدة بعيدة عن الاصطفافات القومية أو الحزبية.
وفي هذا السياق، أكد عضو القيادة العامة لقوات سوريا الديمقراطية سيبان حمو، وعضو اللجنة العسكرية للتفاوض مع دمشق، استعداد "قسد" للانضمام إلى الجيش السوري، شريطة أن يتم الدمج على أسس تحترم خصوصيتها وهويتها وتضمن حقوق جميع مكونات الشعب السوري.
من جانبه، شدد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على أن انضمام "قسد" إلى الجيش الوطني يمثل المسار الصحيح لخدمة المصلحة الوطنية العليا، في إشارة إلى دعم دمشق لخيار الدمج لا الموازي.
الخبير السياسي والاستراتيجي عبد الجبار العكيدي قال في حديث لسكاي نيوز عربية إن هناك رغبة حقيقية داخل "قسد" خصوصًا بين الأكراد الوطنيين في تطبيق اتفاق 10 آذار الموقع بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي، وإنهاء الخلافات القائمة.
وأشار العكيدي إلى أن تعيين سيبان حمو ضمن اللجنة العسكرية المشتركة مؤشر قوي على هذا التوجه، واصفًا إياه بأنه قائد منفتح يدرك طبيعة المجتمع السوري والجيش الوطني.
ويرى العكيدي أن الحديث يجب أن يكون عن "دمج" لا "انضمام"، موضحًا أن الدمج يعني إعادة هيكلة الجيش السوري بما يسمح باستيعاب "قسد" ضمن بنيته، بينما الانضمام يوحي بكتلة تلتحق بأخرى من دون تغيير داخلي في الهيكل العام.
ويؤكد العكيدي أن الجيش السوري المنشود يجب أن يكون وطنيًا جامعًا، يضم العرب والكرد والمسيحيين وجميع المكونات، دون أن يتحول إلى تشكيلات طائفية أو عرقية.
ولفت إلى أن تطبيق الاتفاق بدأ فعليًا عبر معالجة الخلافات في أحياء الأشرفية والشيخ مقصود بحلب، حيث جرى إطلاق سراح عدد من المعتقلين الذين كانوا محتجزين في الرقة ودير حافر، واصفًا الخطوة بأنها مؤشر إيجابي على تقدم المباحثات.
وشدد العكيدي على أن إنجاز الدمج يحتاج إلى تنازلات متبادلة ورؤية سياسية ناضجة، محذرًا من أن أي نموذج للمحاصصة أو التقاسم العرقي والطائفي لن يبني دولة حقيقية بل سيكرس الانقسام.
وأشار إلى أن بعض التيارات الكردية المتشددة المنضوية في منظومة "المجتمع الكردستاني" كحزب العمال الكردستاني في تركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا — قد تعيق بعض جوانب الاتفاق، في حين أن انفتاح القيادة السورية وقيادات كردية وطنية مثل مظلوم عبدي وسيبان حمو يعزز فرص الوصول إلى تفاهم شامل.
وختم العكيدي بالتأكيد على أن "أي نقطة دم سورية غالية على الجميع"، داعيًا إلى أن يكون الدمج بداية مشروع وطني جامع يعيد لسوريا استقرارها ووحدتها.
وتبدو دمشق و"قسد" اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من التفاهم، يختبر فيها كل طرف مدى قدرته على التنازل والتكيّف مع شراكة وطنية تتجاوز الحسابات الضيقة.
فالاجتماعات الميدانية وتسليم المعتقلين والنفط وفتح القنوات السياسية، كلها إشارات إلى أن صفحة القطيعة بدأت تنطوي تدريجيًا، لتحل محلها صيغة أكثر واقعية عنوانها "الدمج من أجل الدولة".
لكن الطريق لا يزال طويلًا؛ فالميدان وحده سيحسم إن كان هذا التقارب مجرد هدنة مؤقتة أم خطوة حقيقية نحو إعادة بناء سوريا على أسس جديدة من الشراكة والهوية الواحدة.