كشف تحقيق نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أنّ أحد كبار مشغّلي الطائرات المسيّرة في جيش الاحتلال أنهى حياته بعد أن قال لزملائه إنّه لم يعد قادرًا على تحمّل مشاهد الحرب ونتائجها المروّعة في غزة، حيث وُصف بأنه من أقدم وأمهر ضباط الاحتياط في هذا السلاح.
وبحسب التحقيق، جرت مراسم الدفن في مقبرة عسكرية وسط إسرائيل، بحضور عشرات الضباط من سلاح الجو، من دون تغطية إعلامية أو توثيق، في جنازة "صامتة" كما وصفها الشهود. ورغم مرور أشهر على الحادثة، لا يزال اسم الضابط محظورًا من النشر.
أحد زملائه قال للصحيفة: "كان يحب الجيش والدولة، لكنه لم يحتمل مشاهد الموت والدمار. رأيته يذبل ببطء حتى فقد توازنه تمامًا". وأوضح أن الضابط لم يكن مسؤولًا عن تنفيذ الهجمات مباشرة، بل عن الإقلاع والهبوط، لكنه "رأى كل شيء، وعرف نتائج كل طلعة جوية"، مضيفًا: "ذلك أثقل عليه كثيرًا، فبينما استطاع آخرون كبت ما رأوه، هو لم يستطع".
مشغّل آخر لطائرة مسيّرة خدم أكثر من 500 يوم في الحرب عبّر عن مشاعر مشابهة: "يظن الناس أن عملنا يشبه اللعب على بلايستيشن، لكننا في الحقيقة أقرب إلى ميدان القتال نفسيًا. نرى بوضوح تام ما يحدث، نسمع الصراخ، ندرك التبعات. لسنا في خطر مباشر، لكننا قادرون على إنهاء حياة أشخاص في أي لحظة، وهذا لا يُحتمل. أحيانًا نشعر أننا نلعب دور الإله، نقرر من يعيش ومن يموت. نحن مسؤولون عن موت آلاف الأشخاص، بعضهم أبرياء".
التحقيق أورد أيضًا شهادة ضابط آخر تحدّث مع المنتحر قبل أسابيع من وفاته: "قال لي إنه يجب إنهاء الحرب، لأن عواقبها ستكون أسوأ مما نتصور. ذكر أطفالًا قتلى، وأعرب عن خوفه على مصير الأسرى".
الجيش الإسرائيلي أقرّ بأن الضابط كان يتلقّى علاجًا نفسيًا قبل انتحاره، لكنّه استُبقي في مهامه بسبب كفاءته العالية، وفق ما نقل التحقيق عن ضابط كبير قال: "كان الأفضل لدينا، ولم يكن ممكنًا الاستغناء عنه خلال الحرب".
خبير في الطب العسكري أوضح لـ"هآرتس" أن الحالة تمثّل ما يُعرف بـ"الإصابة الأخلاقية"، وهي شكل من الاضطراب النفسي ينشأ عندما يشعر الجندي أنّه شارك في أفعال تتعارض مع قيمه الأخلاقية. وأضاف: "الفجوة بين القيم الشخصية وسلوك الجندي تولّد صراعًا داخليًا عميقًا ومؤلمًا".
شهود آخرون أكدوا أن حالته النفسية تدهورت بشكل حاد قبل انتحاره، وأن مشاركته في الحرب ضد غزة ثم ضد إيران فاقمت أزمته. أحدهم قال: "كنا نظن أن خدمته الطويلة ستشعره بالفخر، لكنها دمرته. كان متوترًا، محطّمًا من الداخل".
التحقيق نقل أيضًا شهادات لمشغّلين آخرين أصيبوا باضطرابات مشابهة. أحدهم قال: "كنت قرب محور نتساريم عندما طلب قائد الكتيبة قصف شخصين يقتربان من الجنوب، فأطلقت النار. تبيّن لاحقًا أنهما طفلان. في البداية لم أتأثر، لكن بعد أيام بدأت أستعيد المشهد وأشعر بالخزي. بعد ذلك طلبت تسريحي لأنني لم أعد أتحمل".
وأضاف: "لم أقتل بدافع الانتقام، فقط عندما شعرت بتهديد للقوات. ومع ذلك، لا أستطيع التعايش مع ما فعلت. إنه يحرقني من الداخل. راودتني أفكار انتحار، لكن عائلتي هي ما أبقاني على قيد الحياة".
البروفيسور إيال فروختر، الخبير في علم النفس العسكري، أوضح أنّ "الإصابة الأخلاقية تختلف عن اضطراب ما بعد الصدمة، فهي لا تنشأ عن تهديد للحياة بل عن صراع مع الضمير الأخلاقي". وأوضح أن العلاج "يرتكز على المصالحة مع الذات والتقبّل، لا على إعادة التعرّض للحدث الصادم".
ضابط آخر روى أنّه بعد تسريحه "انهار نفسيًا"، قائلاً: "تذكرت قصفًا تأخرت فيه بالاستجابة، فقتل مقاتلون من النفق جنديين. عندما رأيت وجهيهما في النعي، بكيت كطفل". وأضاف: "ثم شاهدت صور جثث فلسطينيين في تيليغرام وأدركت أنني جزء من هذا الجحيم. يقولون إننا قمنا بواجبنا، لكن الألم لا يوصف. القادة تركونا وحدنا بعد المعركة".
البروفيسور يوسي ليفي–بيلز، رئيس مركز أبحاث الانتحار بجامعة حيفا، أكد أنّ "مشغّلي المسيّرات كانوا في الخط الأمامي للهجمات، وربما تسببوا في أكبر عدد من القتلى، وهذا يترك آثارًا نفسية هائلة". وأضاف: "عندما تزول مشاعر الدفاع والانتقام، يبدأ السؤال الأخلاقي: ماذا فعلت؟ هذه لحظة الانهيار الحقيقي".
وختم قائلاً: "هناك كثيرون في إسرائيل سيعانون مما نسمّيه إصاباتٍ أخلاقية. بعد أن تهدأ الحرب، سيبدأ الناس بمراجعة أفعالهم، وما بدا مبررًا في القتال سيبدو مختلفًا تمامًا لاحقًا. هذه الجروح لا تُشفى بسهولة، وستظل تطاردهم طويلًا".