"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
بدأت إسرائيل بفرض رؤيتها الخاصة لشكل الحدود الجغرافية المستقبلية مع لبنان، فخلال السنوات الماضية، تعاملت الدولة العبرية مع الحدود البرية مع لبنان على أنها غير مرسمة، على الرغم من أن الحدود، مرسمة فعلاً ومعترف بها دولياً بموجب إتفاقية بوليه – نيوكومب الموقعة عام 1923 بين فرنسا وبريطانيا كقوتين منتدبتين. لاحقاً جرى تأكيد الحدود بإعتراف إسرائيلي مُباشر من خلال إتفاقية الهدنة الموقعة مع لبنان عام 1949.
على الرغم من ذلك، تصرّفت تل أبيب على أساس أن ترسيم الحدود الدولية عام 1923 لا يعنيها ولا يلزمها! لأجل ذلك، عملت تل أبيب طوال السنوات الماضية على إبقاء ملف الحدود مع لبنان معلّقاً.
لكنّ المشهد تبدّل بعد نتائج حرب أيلول – تشرين الثاني 2024، إذ باتت إسرائيل تعمل على انتزاع اعتراف لبناني غير مباشر بحدود جديدة تُرسَّم بفعل الأمر الواقع.
حدود بالأمر الواقع!
لهذه الغاية، شرعت إسرائيل، منذ أسابيع، في تشييد جدار خرساني على طول الحدود الجنوبية. ووفق المعلومات، بدأت أعمال البناء شرق بلدة يارون في القطاع الغربي، حيث قضم الجدار نحو أربعة آلاف متر مربع من الأراضي. بالتوازي، انطلقت أعمال مماثلة في خراج عيترون في القطاع الشرقي من الجنوب.
الغاية من بناء الجدار، الذي اعترضت عليه الأمم المتحدة عبر قوات اليونيفيل، لا تتصل بحماية المستوطنات كما تدّعي تل أبيب، بل بإعادة تشكيل الرسم الهندسي لخط الحدود وفق الرؤية الإسرائيلية وضمّ مساحات لبنانية تحت حجة "إنشاء منطقة عازلة".
دهاء نعيم قاسم
بدهاء سياسي، نجح الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في نزع ذريعة "أمن المستوطنات" من يد إسرائيل. فموقفه الأخير في يوم شهيد حزب الله، والذي أكّد فيه أن "لا خطر على المستوطنات"، لم يكن موقفاً عادياً، بل جزءاً من مقاربة تعتمد على معطيات تفيد بأن إسرائيل تستخدم ذريعة المستوطنات لتبرير تلاعبها بالحدود.
الخط الأزرق بدلاً من الحدود
من يراقب الشكل الهندسي للجدار الناشئ، يلاحظ بسهولة أن إسرائيل تبني في مناطق تُحاذي أو تتجاوز "الخط الأزرق"، وهو خط إنسحاب القوات الإسرائيلية الذي رُسّم برعاية الأمم المتحدة عام 2000، وفي مواقع أخرى تقوم بالبناء فوقه مباشرة. هذا المسار يكشف أن تل أبيب تتعمّد بناء الجدار بهدوء ومن دون استفزازات، داخل الأراضي اللبنانية وبعيداً عن خط الحدود الدولية المعترف فيها، وذلك من أجل فرض "أمر واقع" على الدولة اللبنانية يسبق دخول أي مفاوضات مع تل أبيب.
إسرائيل تعتبر أن الخط الحدودي الحالي لا ينسجم مع تصوّرها الجغرافي والعسكري، وتسعى إلى تعديل الكثير من النقاط الجغرافية التي يعتمدها لبنان، كمثل نقطة رأس الناقورة، والإنتهاء من قضايا تاريخية عالقة كالنقاط الـ13 المتنازع عليها أو لبنانية الجزء الشمالي من بلدة الغجر، بل وحتى ما يعرف بالـ"قرى السبع" التي تقع داخل الأراضي اللبنانية بموجب إتفاقية بوليه – نيوكومب ولما لا، تفكير إسرائيل أيضاً بدفع لبنان للتخلي عن جميع القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة والتي ثبتت حقه برياً وذلك كشرط لأي إتفاق مقبل مع لبنان يحل مكان أي صيغ أخرى.
وبصراحة، نجحت تل أبيب عام 2022 في فرض مقاربتها على الحدود البحرية، وهي اليوم تستكمل المشروع بشكل أوسع، مستفيدة من حالة الضعف اللبناني ومن عدم وجود معارضة أميركية حقيقية، خصوصاً في ظل المواقف القديمة للرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي قال قبل انتخابه إن "إسرائيل صغيرة الحجم ويجب توسيعها".
دبلوماسية السلحفاة
بينما تمضي إسرائيل في عمليات القضم الممنهجة، يواصل لبنان تحرّكه الدبلوماسي لوضع حدّ لهذه الخروقات عبر تقديم شكوى إلى مجلس الأمن. لكن وفق الوقائع الميدانية، فإن تل أبيب تتحرك وفق آلية سريعة وممنهجة متجاهلة المؤسسات الدولية بدليل عدم إعترافها بأنها أصلاً تقوم بأعمال بناء تغير في معالم الحدود مع لبنان رغم تأكيدات قوات اليونيفيل! وثمة من يعتقد بصراحة بأن تجاهل تل أبيب وواشنطن الدعوات المتكرّرة لرئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون للدخول في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، مقصود حتى تنجز إسرائيل ما تريد إنجازه.
نبوءة هوكستين تتحقق
لفهم ما يجري، يجب العودة إلى خطاب شيّق ألقاه المبعوث الأميركي السابق إلى لبنان عاموس هوكستين في 16 أيار 2024، خلال العشاء السنوي لمجموعة Task Force for Lebanon(مجموعة العمل الأميركية من أجل لبنان) وهو لوبي ضغط يضم أميركيين من أصول لبنانية ويعتبر من لوبيات الضغط المؤثرة في واشنطن، حيث قال بوضوح:
"علينا أن نصنع حدوداً بين لبنان وإسرائيل للمرة الأولى. إذا استطعنا فعل ذلك في البحر، نستطيع فعلها في البر أيضاً". وعبر حينه عن إنطباعه بضرورة تحويل الخط الأزرق إلى خط حدودي دائم وتطبيق القرار 1701 بالكامل"، وهي المفردات التي عاد "اللوبي" وأزالها من محتواه عبر موقعه الإلكتروني أو أي منصة أخرى!
اليوم، بدأت هذه الرؤية تتحقق، مع تشيّد تل أبيب للجدار وتنفيذ القرار 1701 الذي يعد منتهاً مع حلول نهاية العام 2026 ومغادرة قوات اليونيفيل، ما يؤكد بأن كلام هوكشتين كان أكثر من مجرد كلام.
تنفيذ القرار 1701 يعني نظرياً الانتهاء منه وهذا يفتح أفقاً أمام إبرام إتفاق جديد. يصبح مفهوماً الدفع بإتجاه مفاوضات بين لبنان وإسرائيل، على جدول أعمالها التوصل إلى إتفاق جديد ينظم العلاقة بين الطرفين، ويتولى ترسيم الحدود والتراجع عن كل الإتفاقيات القديمة ذات الصلة!