ما جرى في هذا القرار ليس تحسين وضع وظيفي، بل محاولة واضحة لإعادة تشكيل الماضي عبر كتابة تاريخ إداري جديد يبدأ "اعتبارًا من اليوم التالي لتاريخ 4/8/2022"، أي منذ تسلّم رئيس الهيئة العليا مهامه. بعبارة أخرى، قررت الحكومة فجأة أنّ التعويض الذي يُفترض أن يبدأ اليوم، يجب أن يُدفع عن سنتين سابقتين، وكأن لبنان لا يعيش انهيارًا ماليًا، وخزينة الدولة لا تُدار بليرة فوق ليرة.
وفي هذه المسألة، القواعد الدستورية لا تحتمل التأويل، فالحكومة لا تملك منح أي قرار مالي مفعولاً رجعيًا، خصوصًا حين يتعلق الأمر بموظف رسمي وبفروقات مالية ضخمة. والوثائق الرسمية تكشف بوضوح أنّ التعديل لم يقتصر على تعويض شهري، بل شمل إعادة توصيف مركز رئيس الهيئة العليا واعتباره كموظف فئة أولى "احتفاظًا بحقوقه المكتسبة"، أي كأننا أمام انتقال وظيفي يجري الآن، لكن يريد أحدهم تحميله للخزينة منذ عامين.
هذا ليس تنظيمًا إداريًا، بل هو تشريع مباشر يُنشئ حقوقًا مالية في الماضي لم تكن موجودة يومها. وما هو أخطر من ذلك أنّ الحكومة، من خلال هذه الصياغة، لا تمنح تعويضًا فحسب، بل تُقرّ عمليًا بأن على الدولة تسديد فروقات غير منصوص عليها في أي قانون أو موازنة أو نص تشريعي. وهو سلوك يتجاوز مجلس النواب ويتخطّى دوره في الرقابة على الإنفاق العام، وكأنّ السلطة التنفيذية قررت أن تمنح نفسها حق إصدار قوانين مالية مقنّعة.
المفعول الرجعي بهذا الشكل يُعدّ اعتداءً صريحًا على مبدأ فصل السلطات. فهل يجوز للحكومة أن تمنح رئيس الهيئة العليا تعويضًا من 2022 بمفعول فوري، في حين أنّ القاعدة الدستورية تحصر الإنفاق وتعديل الرواتب بالمجلس النيابي وحده؟ وأي سابقة ستُفتح اليوم إذا أقرّ الجميع بأن الحكومة قادرة على منح أي موظف في الدولة حقوقًا بأثر رجعي كلما أرادت، وكلما وجدت "مخرجًا" لغويًا مناسبًا؟
تجدر الإشارة إلى أن الأمر لا علاقة له بالأشخاص، ولا بموقع رئيس الهيئة العليا، مهما كان تقديرنا لدوره ومهنيته. القضية اليوم هي قضية دولة. فإذا تحوّلت القرارات الحكومية إلى وسيلة لإعادة هندسة الماضي، وتغيير التصنيف الوظيفي، وتحديد التعويض من دون العودة إلى السلطة التشريعية، فإن الكارثة الحقيقية تبدأ من لحظة قبول سابقة تفتح الباب أمام فوضى مالية وإدارية لن تُغلق بسهولة.
في المحصلة، لا يمكن السماح بتحويل الحكومة إلى مشرّع رديف، ولا بتمرير قرارات رجعية تكلّف الخزينة ما لا تحتمله. والقرار رقم 24 ليس تفصيلاً ولا ملحقًا إداريًا، بل جرس إنذار. وإذا لم يُقفل الباب على هذه السابقة الآن، فقد نجد أنفسنا غدًا أمام دولة تُدار بقرارات رجعية، وتُموَّل بنصوص ملتوية، وتُدار بعقلية "نكتب الماضي كما نشاء"، وهذا ما لا يريده أحد إلا من لا يريد بقاء دولة.