"ليبانون ديبايت"- عبدالله قمح
إننا نعيش هدنة ثلاثية الأبعاد. شاءت الأقدار، الآن، أن تتقاطع عوامل عدّة، ربّانية ودنيوية، في مشهدية واحدة عكست هدوءاً يشوبه الحذر. يبدأ من جنوب الليطاني ولا ينتهي شماله، آخذاً في طريقه منابر الداخل.
هي هدنة زيارة البابا لاوُن الرابع عشر، أو هدنة فرضها الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم خلال إحياء ذكرى رئيس أركان الحزب هيثم الطبطبائي، حيث وجّه الحزب، وللمرة الأولى بعد توقيع اتفاق 27 تشرين الثاني 2024، رسالة تهديد واضحة بأنه مقبل على تنفيذ عمل عسكري ما رداً على عملية الاغتيال، أو أنها هدنة ما قبل العاصمة حيث التلويح بها جارٍ.
محاولة لاستقراء الحزب
في الداخل، وقبل زيارة البابا، تسارعت الاتصالات لاستفهام موقف الحزب بعد كلام أمينه العام. طبعاً الحزب لا يقدّم أجوبة عسكرية لسائليه، لكنه يبقي الجسور مفتوحة، ويؤكد أنه مساهم مهم ومستثمر أصيل في مسار إنجاح الزيارة. ولأجل ذلك، حشد مفوضية بيروت في كشافة الإمام المهدي وفرقتها الموسيقية ومناصريه على طرفي الطريق المؤدي إلى القصر الجمهوري.
في الخارج، وكما يحدث عادة، تسارعت رسائل التهويل في حال أقدم الحزب على أي خطوة عسكرية. أول ما يمكن فهمه من تلك الرسائل هو الاعتراف بقدرات الحزب من قبل الدول التي تقدّم نفسها رعاة للشأن اللبناني. وثانياً، أن الحزب ضعف لكنه لم يهزم وما زالت لديه قدرات يُحسب لها.
ردع الحد الأدنى؟!
على المقلب الإسرائيلي، تسارعت الأحداث. ورغم التزام إسرائيل "الشكلي" بزيارة البابا لاوُن بصفته مواطناً أميركياً لا رجل دين، أخذ خطاب قاسم حيّزاً من الاهتمام هناك.
أوّل ما سُجّل أنه حقّق نوعاً من الردع الكلامي. لا نقول إن قوة الردع عادت إلى سابق عهدها أو تسلقت الهرم نحو التعافي الحقيقي، لكنّ الخطاب وضع تل أبيب بتهيب وأخذت تترقّب أوساط الحزب. لذلك كانت دعوة قاسم واضحة حين طالب عدم الغوص في التحليل.
تبحث الدوائر الإسرائيلية عن طرف خيط عمّا ينوي حزب الله مهاجمته فعلاً. وبدل الغرق في التهديدات الدائمة حول نزع السلاح، انزلقت الأمور إسرائيلياً نحو التحذير من أي خطوة عسكرية قد يقدم عليها الحزب.
ليس مفاجئاً القول إن هذا التهديد رسم معادلة قصيرة المدى، محدودة الزمن، لكنها فعّالة. لم تمنع إسرائيل من متابعة معركتها ضد الحزب، لكنها أعادت تنظيمها بالحدّ الأدنى. قال الحزب أنه يمتلك الإمكانية وسيبلغ مرحلة الإنفجار. التقت إسرائيل أشارة أخيراً. وربما بلغ مسامع تل أبيب كلام عاموس هوكستين اللافت والأخير مع هادلي غامبل حين قال: "يجب على إسرائيل أن تفهم أن النهج الخشن والاعتماد على المزيد من الضغط يؤديان أحياناً لنتائج عكسية.
الفراعنة أسقطوا الفراعنة
نعيش الآن في مرحلة ترقّب. استطاع الشيخ نعيم قاسم إجراء هندسة سياسية من غير المعلوم مدى فعاليتها الكاملة، لكنها بلا شك تدفع قسماً في إسرائيل إلى إعتبار أن ما يسمى في تل أبيب "جهوداً لتقويض حزب الله" قد ينقلب أزمة، تعيد الاعتبار للحزب لا ضربه، وتساهم في تقويته لا إضعافه.
كل ذلك لا يلغي مسار الضربات الإسرائيلية الذي طال الجميع تقريباً: من المبادرة المصرية، التي نُسّق جزء كبير منها مع الفرنسيين وبقدر ما مع السعوديين، إلى دفع حزب الله نحو إعلان خيار المواجهة ملتزماً الآن بمؤقت زمني كان قاسم قد ألمح إليه.
في المبادرة المصرية، كان يؤمّل داخلياً أن يحمل وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي صيغة مدروسة ومنسقة بين المستويين السياسي والأمني. لكن تبيّن على الأرض أن نزاعاً ما نشب بين المستويين أطاح المسار الذي بدأه مدير المخابرات المصرية حسن رشاد قبل نحو شهر، وحلّ مكانه مسار آخر صاغته الخارجية المصرية، أدخلت عليه تعديلات جذرية، جاء الوزير إلى بيروت للتعبير عنه. فضاع في زواريب العاصمة وأخذته "الفخفخة" اللبنانية، ليتحوّل من ناقل للتهديد إلى منتجه، ما أدى إلى إفراغ الوساطة من مضمونها وضرب مسارها، ولجوء القاهرة ليلاً، عبر قنوات اتصال غير تقليدية، إلى طلب النجدة عبر كثر من بينهم عين التينة بهدف نفي ما نقله الإعلام عن لسان وزيرها، علماً أن ذلك حصل أمام عدد كبير من الشخصيات التي تتناغم مع هكذا طروحات.
ثاني ما ضُرب مصرياً كان لقاءً محتملاً ذا طابع أمني بين شخصية من الحزب وأخرى مصرية. أصبحت فكرة الإجتماع أصلاً منت الماضي، بعد نقل الملف من الأمن إلى السياسة، وبعدما سمع حزب الله ما نُقل عن لسان الوزير، فأتى الردّ بأن "الرسالة وصلت"، وكان قد سبقه موقف رئيس المجلس التنفيذي في الحزب الشيخ علي دعموش في تأبين الشهيد الطبطبائي.
ثمة من يقول إن نقل الملف المصري من جهة إلى أخرى جاء "ملعوباً". وقد يصحّ ذلك تبعاً للمناخ الراهن، حيث جاء دخول مسار الاغتيالات الإسرائيلية إلى الضاحية بوزن ثقيل. فيما يقول آخرون إن القاهرة تلقّت نصيحة دولية بعدم تعريض نفسها لـ"المحرقة اللبنانية".
الدور على القطري
يغادر البابا لاوُن لبنان الثلاثاء، ليصل بعده وزير خارجية قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني الأربعاء.
حتى الآن لا تظهر في القصر أي "مبادرة بابوية" لحل العقد اللبنانية. خلافاً لذلك، يأتي الوزير القطري محمّلاً بثقل محاولة إعادة إنضاج ما فشل المصريون بتحقيقه، وللحفاظ على بقاء إحدى قنوات الحل عربية، كما تقول مصادر دبلوماسية "لعدم الاستفراد بالملف اللبناني".
بعد الزيارة، من المرتقب حصول اجتماع دبلوماسي عربي "ضيق" لتقييم النتائج. بالموازاة، تحضر مورغان أورتاغوس بصفتها المستشار السياسي داخل آلية المراقبة الـ"ميكانيزم"، وتنضم الخميس إلى وفد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الذي يزور إسرائيل ثم لبنان بالنيابة عن رئيسة الوفد الأميركي دوروثي شيا.
منذ تلك اللحظة يصبح الترقّب مشروعاً: هل يبادر الحزب إلى الرد؟ أم تسبقه إسرائيل بتنفيذ تهديداتها؟ أم أن الأخيرة بدأت تتعامل بشكل مختلف مع جرأة الحزب على الإعلان، ومع الفشل الاستخباراتي الكبير في بيت جن السورية؟