يروي أحد السياسيين أن وزير خارجية الفاتيكان سأل البطريرك الماروني يوماً عن عدد الموارنة في لبنان، فأجابه: “مليون ماروني”. فابتسم المسؤول الفاتيكاني قائلاً: “في لبنان مليون ماروني ومليونا رأي”. ليست النكتة بريئة، ولا هي مجرد طُرفة دبلوماسية؛ إنّها خلاصة قرن من التجربة مع طائفة لعبت دوراً تأسيسياً في قيام الكيان اللبناني، لكنها لم تنجح يوماً في تنظيم خلافاتها بما يحفظ وزنها ودورها وتأثيرها.
ويصعب اليوم فصل أزمة الموارنة عن أزمة لبنان نفسه. فكلما اهتزّ البيت الماروني، ارتجّ الكيان برمّته. الموارنة الذين كانوا رافعة لقيام “لبنان الكبير” عام 1920، تحوّلوا في العقود الأخيرة إلى عنوان للعجز عن إنتاج تسوية داخلية تضمن الحدّ الأدنى من استقرار النظام.
والواقع أنّ الانقسام الماروني ليس جديداً. فمنذ صراع الإقطاع والفلاحين (1858–1860)، مروراً بتنافس الزعامات بعد الاستقلال، ظهر خطّ تاريخي يكرّس التنافر داخل البيئة نفسها. خلاف بشارة الخوري وكميل شمعون، ثم شمعون وفؤاد شهاب، والصراع بين “النهج الشهابي” والقوى التقليدية، كلها محطات فتحت الباب لانقسامات سياسية وفكرية لم تُطوَ إلى اليوم.
ومع ذلك، يبقى أخطر ما عرفته الساحة المارونية حرب الإلغاء (1989–1990) بين العماد ميشال عون و”القوات اللبنانية”، وهي مواجهة دفعت المناطق المسيحية ثمنها دماً وتهجيراً وانقساماً عميقاً في الذاكرة والوجدان. وبعد دخول اتفاق الطائف حيّز التنفيذ، وجد الموارنة أنفسهم أمام مرحلة “الدور المتراجع” بعدما خسر رئيس الجمهورية جزءاً أساسياً من صلاحياته، فيما استمرّ الصراع داخل البيت الواحد على الكرسي نفسها التي كانت سبباً لهذه النزاعات عبر عقود.
ثم جاءت مرحلة ما بعد عام 2005 لتضيف انقساماً جديداً بين مشروعين: محور 8 آذار الذي مثّله ميشال عون وحلفاؤه، ومحور 14 آذار الذي ضمّ “القوات اللبنانية” والكتائب والمستقلين، ما عمّق الشرخ العامودي بين المسيحيين. ولم يُنتج هذا الانقسام سوى مزيد من التباعد، انعكس في كل استحقاق رئاسي منذ عام 2007، حيث فشل الأقطاب الأربعة – عون، جعجع، فرنجية، والجميل – في الاتفاق على اسم واحد، رغم كل محاولات بكركي لجمعهم.
وفي هذا السياق، لم يكن غياب ثلاثة من “الأقطاب الأربعة” عن مراسم استقبال البابا لاوون الرابع عشر سوى تفصيل إضافي في مسلسل التباعد. فالطائفة التي لعبت دوراً محورياً في نشأة الدولة، باتت عاجزة عن جمع أربعة زعماء في قاعة واحدة.
عبارة المسؤول الفاتيكاني لم تكن توصيفاً فكاهياً، بل تشخيصاً دقيقاً لثقافة سياسية تُغلَّب فيها الشخصنة على المؤسسية، وتُقدَّم فيها المكاسب الصغيرة على بناء تفاهمات كبرى. فالتشتّت داخل البيئة المارونية لا يترجم تنوّعاً صحياً في البرامج، بل يصنع زعامات متشابهة في الخطاب مختلفة في الولاءات، تتصارع على من يملأ الكرسي أكثر مما تتجادل حول معنى الكرسي ودوره.
ولا يمكن عزل أزمة الموارنة عن أزمة النظام اللبناني، لكن موقعهم داخل المعادلة الطائفية يجعل من خلافاتهم عاملاً مضاعفاً للاهتراء وتآكل الدولة.
التاريخ يقول إنّ الموارنة عرفوا كيف يبتكرون الكيانات حين شعروا بالخطر. فهل يعرفون اليوم كيف يبتكرون تسوية جديدة تحمي دورهم وتحمي لبنان معهم؟ أم تبقى عبارة “مليون ماروني ومليونا رأي” مرآة مرّة تعكس واقعاً سياسياً يزداد تفككاً، فيما البلد كلّه يدفع ثمن هذا الانقسام؟
الجواب لن يأتي من روما ولا من عواصم القرار، بل من البيت الماروني نفسه… إذا قرر أخيراً أن يواجه الحقيقة.