استقبلت الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، ومعها حشود غفيرة من المؤمنين، قداسة البابا لاوون الرابع عشر في زيارة تاريخيّة تُعدّ الأولى من نوعها لحبر أعظم إلى دير مار مارون – عنّايا, بلهفة الأبناء المشتاقين إلى لقاء أبيهم. وفي اليوم الثاني من زيارته للبنان، خلال أوّل رحلة رسوليّة له منذ انتخابه، حرص الأب الأقدس على تخصيص الرهبانيّة بوقفة تعبّر عن تعاظم مكانة القدّيس شربل في الكنيسة الجامعة، وتؤكّد اهتمام الكرسي الرسولي بالمسيحيّين اللبنانيّين خصوصًا وبجميع اللبنانيّين عمومًا.

وقد شدّد قداسته مجدّدًا على موقع لبنان المميّز في قلب البابوات، واختار أن يرفع صلاة صامتة أمام ضريح القدّيس شربل، مستلهمًا منه نعمة السير في "جهاد الإيمان الحسن" واتباع المسيح بفرح وثبات.
وصل موكب الأب الأقدس إلى عنّايا حيث كان في استقباله رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون. وعلى الطريق المؤدّي إلى الدير، احتشدت جموع المؤمنين منذ ساعات الصباح الأولى، ملوّحين بالأعلام ومترقّبين مرور الـPapamobile لنيل البركة من قداسته عن قرب.
في باحة الدير، كان في استقبال الحبر الأعظم جمع من أبناء الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة يتقدّمهم الأب العام هادي محفوظ ورئيس الدير الأب ميلاد طربيه. وعند الضريح انضم الرئيس عون وعقيلته والسيد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وعدد من الشخصيات الروحية والعامة.

وعلى وقع الألحان السريانيّة المارونيّة، جثا البابا لاوون الرابع عشر بصمت وخشوع أمام ضريح مار شربل، ثمّ أضاء شمعة مباركة قدّمها للدير.
بعد اللحظة الروحيّة المؤثّرة، ألقى الأب العام كلمة ترحيب مقتضبة بدأها بقول: "نعمة على نعمة... هذا ما لا ننفكّ نناله بأجمعنا من ملء ربّنا يسوع المسيح. نعمة على نعمة نلنا أوّلًا بمار شربل الذي ما زالت شفاعته تضيء النفوس وتنشر عجائب السماء في العالم."
وأضاف: "وها نحن ننال نعمة جديدة بوجود قداستكم بيننا في صرح الصمت والنور هذا. جئتم تصلّون أمام ضريح هذا الناسك المتواضع، الذي عرف كيف يبحث عن الله ويمجّده ويناجيه في الخفية."
واستعاد الأب محفوظ ذكرى مرور مئة عام على تقديم الأباتي اغناطيوس داغر دعوى تطويب مار شربل للبابا بيوس الحادي عشر في الفاتيكان عام 1925، معتبرًا أنّ حضور البابا اليوم إلى الدير "يقدّس الذكرى ويجدّد النعمة". وختم مؤكدًا أنّ الزيارة "ستدوَّن في تاريخ الدير والرهبانيّة بما لا يُمحى".

توقّف الأب الأقدس في كلمته عند رسالة القدّيس شربل، "الإنسان الذي لم يكتب شيئًا وعاش مختفيًا وصامتًا، لكن سرّه انتشر في العالم"، وقال: "الروح القدس صاغه ليعلّم الصلاة لمن يعيش بلا الله، ويعلّم الصمت لمن يرزح تحت الضوضاء، والتواضع لمن يسعى للظهور، والفقر لمن يبحث عن الغنى."
وشدّد على أنّ شفاعة القدّيس شربل لم تتوقّف يومًا، داعيًا إلى الاتكال عليه من أجل الكنيسة ولبنان والعالم: "لنطلب الشركة والوحدة من أجل الكنيسة، والسلام من أجل العالم، وبصورة خاصّة من أجل لبنان وكلّ المشرق."
وختم البابا بالقول: "أوكل لبنان وشعبه إلى حماية القدّيس شربل، لكي يسير دائمًا في نور المسيح."
بعد الصلاة، قدّم الأب العام للرهبانيّة للبابا نسخة أولى من كتاب المزامير الصادر عام 1610 من دير مار أنطونيوس – قزحيا، فيما قدّم رئيس الدير شمعة تحمل شعار البابا وقنديلاً يحوي ذخيرة للقدّيس شربل. ثم غادر قداسته الضريح متوجهًا إلى متحف الدير، حيث اطّلع على محتوياته.
خرج الأب الأقدس لملاقاة المؤمنين الذين تجمّعوا في الباحة الخارجيّة، فصافح بعضهم وسط مشاهد مؤثّرة من التصفيق وهتافات الترحيب ودموع الفرح، قبل أن يغادر الموكب عنّايا.
أكّدت هذه الزيارة مجدّدًا أنّ القدّيس شربل لا يزال علامة نعمة للرهبانيّة المارونيّة ولبنان والعالم. وغادر البابا لاوون الرابع عشر ضريح القدّيس شربل تاركًا خلفه صمت المكان الذي لا يخرقه إلّا صلوات الرهبان وابتهالات المؤمنين، وإرث صلاة صامتة حملها معه إلى مار شربل، طالبًا "السلام من أجل لبنان".