هذا ما ظهر جلياً في خطاب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم أمس، والذي هاجم خطوة رئاسية - حكومية شكلية بإرسال مندوب مدني إلى لجنة الميكانيزم، حيث صورها الشيخ قاسم وكأنها انقلاب على الثوابت الوطنية. وهنا تكمن المشكلة، وليس في الخطوة نفسها، بل في مستوى الاعتراض الذي يَشي بعنجهية سياسية لم يعد لبنان قادراً على تحملها.
قاسم يتحدث عن "تنازل مجاني لإسرائيل"، وكأنه هو المرجعية العليا التي تقرر ما هو تنازل وما هو مكسب، وما هو عمل سيادي وما هو خيانة. بينما الحقيقة السياسية والقانونية هي أن الدولة اللبنانية وحدها صاحبة الحق في تحديد هوية ممثليها، لأنها هي المخوّلة دستورياً إدارة الحرب والسلام. أمّا القوى التي تتجاوز الدولة، وتحمل السلاح خارج مؤسساتها، فليست في موقع يسمح لها بإعطاء دروس في السيادة أو الاعتراض على إجراءات دستورية.
الأزمة ليست نقاشاً تقنياً في نوع الوفد، بل تمادياً في مصادرة القرار الوطني. فلبنان، بكل ضعفه الاقتصادي والسياسي، لا يحتمل ازدواجية القرار، ولا يحتمل أن تُمنع حكومته من ممارسة دورها الطبيعي بحجة "عدم منح إسرائيل مكاسب". ثم أي مكاسب؟ الدولة لا تقدّم شيئاً سوى محاولة تنظيم موقعها على طاولة المفاوضات، بينما السلاح خارج الدولة هو الذي خلق فجوة تفاوضية بنيوية، جعلت لبنان الطرف الأضعف مهما حاول البعض تجميل الصورة.
والجدير بالذكر أن السياسة لا تُدار بالشعارات، بل بميزان القوى الفعلي. وميزان القوى اليوم لا يسمح للبنان بأن يتصرف كأنه قوة إقليمية تمتلك خيارات تفاوضية متعددة. لذلك، فإن أي اعتراض على خطوة رئاسية - حكومية يجب أن ينطلق من معيار موضوعي، هل تقوّي الدولة أم تضعفها؟ هل تنتج مؤسسات أم تبقي القرار معلّقاً بإشارة من خارجها؟
الحقيقة أن العنجهية السياسية لا تبني دولة، ولا تصنع سيادة. هي فقط تُبقي لبنان في حالة شلل دائم، يُمنع فيه على المؤسسات أن تعمل إلا ضمن حدود المسموح، وهذه ليست سياسة بل وصاية.
في المحصلة، يتجاوز النقاش اليوم حدود الجدل التقني حول نوع الوفد أو هوية المندوب، ليصل إلى لبّ المشكلة، هل يريد اللبنانيون دولة حقيقية أم مجرد إطار شكلي يُعلَّق عليه كل فريق ما يشاء؟ فالدولة، لكي تكون دولة، تحتاج إلى قرار واحد لا ينازعه أحد، وإلى مؤسسات تمارس صلاحياتها من دون إذن مسبق من قوى تتصرف كأنها المرجعية العليا فوق الدستور.
ما يحصل اليوم هو العكس تماماً. هناك من يمنح نفسه حق تحديد ما هو وطني وما هو خيانة، وكأن الدولة ومؤسساتها مجرّد تفاصيل تدور في فلكه. وهذا السلوك لا يحمي السيادة كما يُروَّج، بل يكرّس ازدواجية القرار ويُعيد لبنان إلى مربّع الشلل، حيث تصبح كل خطوة حكومية عرضة للمزايدات والاعتراضات التي لا تستند إلى منطق مؤسساتي بل إلى فائض نفوذ خارج الدولة.