توحي أحداث المنطقة في الأيام الأخيرة بأن نهاية العام، هذا العام، أكثر من خاتمة لسنة ترحل وموعد مع سنة جديدة في رزنامة الزمن.
صحيح أن هذه الأحداث تأتي في سياق طبيعي ونتيجة لتطوّرات تلاحقت خلال نصف عقد من الزمن، ولكنها، بتناسقها وتزامنها وتضافرها، تؤشر إلى أن ما بعد اليوم الأخير من سنة 2015 ليس كما قبله. وكأن تاريخاً قد مات ليحلّ محلّه، غداً، تاريخ جديد.
في قصّة رائعة للأديب والفيلسوف ميخائيل نعيمة، سمع موسى العسكري، وهو في رقاد عميق، صوتاً يناديه قائلاً: «قم ودّع اليوم الأخير». استفاق الرجل مذعوراً وهو يظن بأن هذا هو اليوم الأخير في حياته، وعليه أن يعدّ العدّة للموت. في الساعات الأربع والعشرين التالية راجع موسى كل أمور حياته من موقع رجل يظن أنه مشرف على الموت، فتبدّلت نظرته إلى الشؤون الجوهرية في الحياة.
في اليوم الأخير من السنة تبدو البلدان الأساسية في المنطقة وكأنها في اليوم الأخير من تاريخها، وأنها على أبواب زمن جديد، لا يشبه حاضرها القريب ولا ماضيها البعيد. هذه صورة واقعية وحقيقة، وليست وهمية مثل اعتقاد موسى العسكري بأنه بات على بعد ساعات من الموت.
المملكة العربية السعودية، أكثر البلدان العربية ثراءً وازدهاراً، والتي التزمت غالباً ديبلوماسية هادئة وصامتة في علاقاتها الإقليمية والدولية، بدأت تتغيّر صورتها على نحو غير مألوف. فهي، من جهة، تعاني من صعوبات مالية واقتصادية، وتنغمس، من جهة أخرى، في حروب المنطقة ونزاعاتها الأهلية.
إنها تعدّ العدّة لحروب طويلة. ففي ذروة الضيق المالي الذي عبّرت عنه الموازنة الجديدة قررت المملكة رفع الإنفاق العسكري إلى سقوف تاريخية، لتبلغ ربع الإنفاق العام، وراحت تعزز تحالفاتها لحماية مشروعها الأمني والعسكري. فبعد أيام من إعلان «التحالف الإسلامي» تجاوزت المملكة حساسياتها وخلافاتها مع تركيا وأعلنت، قبيل اليوم الأخير من العام المنصرم، إنشاء مجلس تعاون استراتيجي مع تركيا، خلال اجتماع الملك سلمان في الرياض مع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان.
صورة الاستعداد للحروب الطويلة لا تتلاءم مع الأرقام المالية والاقتصادية غير المريحة، التي أُعلنت بالتزامن مع زيارة أردوغان، وبمناسبة إقرار مجلس الوزراء السعودي الموازنة الجديدة. إن رفع إنتاج النفط السعودي حوالي 500 ألف برميل يومياً لم يعوّض الخسارة الكبيرة الناجمة عن تراجع سعر النفط، كمتوسط، من 97 دولاراً سنة 2014 إلى 51 دولاراً في العام الجاري، مما أدّى إلى عجز متوقع في موازنة 2016 بحدود 326 مليار ريال، ما يمثل 40% من نفقات الدولة. ويضاف هذا العجز إلى 367 مليار ريال هو عجز سنة 2015. يؤدّي توالي العجز إلى قضم الاحتياطات السعودية الضخمة ويجبر الحكومة على اعتماد إجراءات وإصلاحات غير شعبية.
وفقاً لتوقعات البنك الأهلي التجاري، سيسجّل الاقتصاد السعودي العام المقبل أدنى نسبة نموّ منذ سنة 2009، فيما أظهر الحساب الجاري للمملكة عجزا بنسبة 6.3% من الناتج المحلي هو الأوّل منذ سنة 1998، وقد تراجع الميزان التجاري بنسبة 66% سنة 2015. وتوقع المصدر نفسه أن تشهد المملكة خلال السنوات الخمس المقبلة نوعاً من التراجع في النشاط الاقتصادي، سيقلّ معه المعدّل الوسطي السنوي للنموّ عن مستوى 3%.
تراجع الاقتصاد الخليجي خلال السنوات المقبلة يشكل عاملاً غير مناسب لاقتصاديات المشرق العربي، ككل. لقد طرحت الحروب التي لا تزال دائرة تحدّيات كبيرة على اقتصاد العراق وسوريا ولبنان، والاقتصاد الأردني إلى حدّ ما.
يعاني العراق من دمار المدن العراقية التي تشكل مسرحاً لقتال «داعش»، ومن عجز الموازنة العراقية، والاستثمارات الكبيرة التي تتطلبها عودة العراق إلى مركزه الاقتصادي قبل اجتياح الكويت، ثم اجتياح بغداد، إضافة إلى هدر المال العام الذي يشكل الفساد الأسطوري أحد مسبّباته الرئيسية. من جهة أخرى، في الضفة السورية، تدمير الجزء الأكبر من البلد المنكوب، ومتطلبات إعادة الإعمار التي لن تقلّ عن 300 مليار دولار، سرقة النفط السوري من قبل ما يسمّى بتنظيم الدولة الإسلامية، كوارث النزوح واللجوء والتهجير، كلها تساؤلات وتحديات برسم المستقبل القريب أو البعيد.
هذه التحدّيات الهائلة تقتضي، بعد توقف إطلاق النار، وجود موارد هائلة تفوق كثيراً الموارد الذاتية المتاحة في البلدان المنكوبة. كان بإمكان المعونات والاستثمارات الخليجية المساعدة على ردم الهوّة بين الحاجات والإمكانيات، إلا أن استمرار تراجع سعر النفط بسبب توفر العرض وانكماش الطلب يحول دون هذه التمنيات.
باستعادة الرمادي على يد التحالف الغربي و «الحشد العشائري» لا يبدأ انهيار داعش وحسب، بل تكتمل صورة المنطقة السنية، ويكاد يكتمل التكوين الفدرالي في العراق.
وبرغم ترشيح العنف السوري للاستمرار والتصاعد لفترة إضافية، فالشهر الأوّل من العام الجديد سيشهد الخطوات الأولى، والطويلة، لإعادة بناء سوريا وفقاً لخطة فيينا، بل ربما وفقاً لاتفاق كيري لافروف، الذي يُشتبه بأنه البديل لاتفاقية سايكس بيكو، بعد مئة عام.
في سوريا والعراق ستبدأ صياغة النظام الجديد، الذي يختلف اختلافاً جذرياً عن النظام القديم. فلا مكان للعروبة ولا للأنظمة المركزية أو للجيوش القوية والحكام الأقوياء، الذين يعدون شعوبهم بالوحدة العربية وتحرير فلسطين. سينتهي نموذج الدولة القومية القوية من الحجم المتوسط التي كانت تهدّد إسرائيل. الدولة الجديدة ستقوم على الموازنة بين تعايش المذاهب والإثنيات وصراعها في الوقت نفسه، قاعدتها المفككة والضعيفة ستمنعها من تشكيل تهديد جدّي يخيف إسرائيل.
الليلة، بالمعنى المجازي للكلمة، وخلافاً لباقي السنين، لا ينتهي عام ويبدأ عام، بل ينتهي تاريخ لكي يولد تاريخ جديد. فوداعاً أيها اليوم الأخير.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News