تثير طريقة تعامل تركيا مع داعش الكثير من التساؤلات، على غرار، هل ترغب انقرة حقا تريد محاربة التنظيم؟ ولماذا تؤمن بنظرية المؤامرة الخارجية؟
كان الهجوم الأخير على مجموعة سياح أجانب في منطقة سياحية مهمة في اسطنبول بمثابة هجوم على استقرار تركيا وعلى ثقة الغرب بها. وتساءلت صحيفة دير شبيغل الالمانية عما إذا سيتمكن الرئيس اوردغان من وضع حد لعمليات تنظيم داعش؟ او بالأحرى، عما إذا كان يريد ذلك بالفعل؟
فقد عشرة المان حياتهم في هجوم اسطنبول الأخير فيما اصيب ثمانية، بعضهم في حالة خطيرة، وأغلبهم اشخاص متقدمون في السن ومتقاعدون جاؤوا من انحاء مختلفة من المانيا رغبة منهم في التنقل والترحال والتعرف على مناطق جديدة. ووقع التفجير في منطقة سلطان احمد التي يؤمها ملايين الزوار سنويا من كل حدب وصوب ويلتقطون فيها صور سيلفي ويتجولون في انحائها التي تجمع بين الماضي والحاضر.
ورأت الصحيفة أن هذا الهجوم يمثل ثلاث ضربات موجعة لتركيا. فهي اولا إهانة لاجهزة الدولة التي اثبتت مجددا عدم قدرتها على منع جريان الدم في منطقة حيوية. ثانيا، يلحق هذا الهجوم اضرارا بالسياحة في البلاد وهو قطاع اقتصادي مهم بالنسبة لتركيا. ثالثا، وقع الهجوم في مدينة ضخمة يتجاوز عدد سكانها 14 مليون شخص مع ١٠ ملايين زائر يوميا. فاسطنبول في النهاية هي قلب الاقتصاد في تركيا ورمز التعايش بين الاسلام والحداثة حتى لو لم تكن عاصمة البلاد السياسية.
ونقلت دير شبيغل عن النائب أيس دانيس اوغلو من حزب الشعب الجمهوري قوله: "سيغير هذا اليوم بلدنا وسيكون بمثابة نقطة انطلاق لسياسات تركيا ضد الإرهاب".
ولكن هذا الهجوم ليس الأول في تركيا ففي العام الماضي في 20 تموز (يوليو) قتل 34 شخصا في سروج، وفي 10 تشرين الأول الماضي فقد اكثر من مائة شخص حياتهم في هجومين مزدوجين في انقرة ولم تعلن اي جهة مسؤوليتها عن الهجومين. ثم وقع الهجوم الاخير في اسطنبول الذي اسقط عددا اقل من الضحايا ولكنه ترك وقعا أكبر، والسبب هو أن رسالة الارهابيين واضحة: يمكننا ان نهاجمكم في اي وقت وفي أي مكان، حسب قول الصحيفة.
هذا ومن غير الواضح إن كان تنظيم داعش وراء هذا الهجوم غير ان الطريقة التي نفذ بها وهوية المنفذ تشير الى تورط التنظيم. والمفجر سوري من مواليد السعودية سجل نفسه كلاجئ في الخامس من كانون الاول (يناير) الجاري في اسطنبول واسمه نبيل فضلي، حسب قول مسؤولين اتراك اكدوا انهم عرفوا هوية المهاجم بفضل بصمات اصابعه ثم رفضوا اعطاء اي معلومات اضافية ظهرت في التحقيق، وهو ما يعني عدم وجود أدلة دامغة حسب قول محللين.
متعمد؟
لاحظت الصحيفة ان معرفة المزيد من التفاصيل عن الهجوم والمهاجم لن تؤثر على النتيجة التي نخرج بها وهي أنه لا يوجد اي مكان آمن يمكن للاوروبيين التوجه إليه لقضاء عطلهم أيا كانت جنسيتهم وبلدانهم الاصلية، فكلهم مستهدفون. ولذا ليس من المعروف إن كان الهجوم يستهدف سواحا المان بالذات ردا على مشاركة المانيا في توجيه ضربات الى مواقع تنظيم داعش في سوريا.
وسارع وزير الداخلية الالماني توماس دو ميزيير الى استبعاد هذه الفكرة وقال: "لا ارى اي سبب يمنع من السفر الى تركيا" فيما عبر مسؤولو الأمن الالماني عن رأي مخالف إذ قال مصدر حكومي بارز "على اولئك الذين يقولون إنهم لا يرون اشارة إلى أن الالمان استهدفوا بهذا الهجوم ان يكونوا أكثر صدقا وأن يقولوا إنهم لا يرون اشارة إلى أنهم لم يستهدفوا بهذا الهجوم".
وفسر كلام دو ميزيير على أنه محاولة لطمأنة الألمان ولمجاملة تركيا فالمانيا تعتمد الآن اكثر من ذي قبل على انقرة عندما يتعلق الامر بأزمة اللاجئين، علما أن الإتحاد الأوروبي وعد تركيا بمبلغ ثلاثة مليارات يورو وبتخفيف شروط الحصول على تأشيرات سفر لو أنها بذلت جهودا اكبر لمنع اللاجئين من التوجه الى اوروبا. ويلاحظ ايضا ان الحكومة الالمانية امتنعت عن توجيه انتقادات لممارسات الرئيس رجب طيب اوردغان التسلطية ولسياسته العنيفة ضد الاكراد وللطريقة التي تعتمدها انقرة في محاربة الارهاب.
وتأمل المانيا بعد هذا الهجوم ان تركز تركيا بشكل اكبر على مكافحة الارهاب المتمثل بتنظيم داعش باعتبار ان القتلى الذين يسقطون ليسوا اكرادا فقط بل سواحا المان ايضا رغم ان الايام التي اعقبت هجوم اسطنبول لم تشهد اي تغيير في هذا الاتجاه.
سوء تقدير
فسرت الحكومة التركية هجوم اسطنبول باعتباره مؤامرة، وقال رئيس الوزراء احمد داوود اوغلو إن "قوى سرية" تستخدم تنظيم داعش مثل "مقاول ثانوي" فيما اتهمت صحيفة ستار المقربة من الدولة روسيا بأنها وراء الهجوم، علما أن اتهامات مشابهة ظهرت بعد هجوم انقرة ما يعني أن الحكومة التركية تعتمد على تفسيرات قائمة على نظرية المؤامرة لتغطي فشلها.
ولاحظت الصحيفة أن تركيا طالما قللت من شأن الخطر الذي يمثله الاسلاميون المتطرفون وهو ما ساعدهم على البروز اكثر إذ تصور اوردغان أنه سيتمكن من التخلص من نظام بشار الأسد بمساعدة متزمتين سوريين غير انه تجاهل حقيقة مفادها أن تنظيم داعش يزداد قوة أو قبل بها. ورحبت تركيا ايضا بـ "الجهاديين"، عكس الاردن الذي منعهم من دخول الاراضي السورية ولم يتم رصد "جهاديين" من تونس والسعودية ودول القوقاز ومن أوروبا الغربية كما لم يتم منعهم من عبور الحدود إلى سوريا رغم أن رصدهم ما كان صعبا على الاطلاق. ففي مطار هتاي في جنوب تركيا يمكن مشاهدة اشخاص ملتحين يظهر عليهم تعب المعارك وتلاحظ آثار طين على احذيتهم.
ولسنوات، كان لتنظيم داعش شقق ومستودعات وحتى معسكرات تدريب في تركيا وتمكن ايضا من تنظيم عمليات تجهيز بالأسلحة وبالذخيرة والاغذية والادوية عن طريقها. كما ارسل تنظيم داعش مقاتليه المصابين للعلاج في مستشفيات تركية قرب الحدود مع سوريا. اضف الى ذلك ان شركات مشبوهة اصدرت تراخيص عمل لـ "مجاهدين" اجانب تخولهم للحصول على أقامة عمل لمدة عام كامل.
وينشط التنظيم ايضا في تركيا في مجال كسب موالين دون خوف من اي تدخل وذكرت الصحيفة ان مسؤولين تجاهلوا معلومات قدمتها اسر تركية انضم اولادها الى التنظيم. ففي عام 2014 تمكن التنظيم من كسب موالين في اسطنبول وفي انقرة ومدن اخرى، حسب الصحيفة وكان يكفي ان يزور شباب وشابات من مختلف انحاء العالم مقاهي قرب جوامع معينة للانضمام الى داعش فيما تبيع محال تحفا تذكارية تمثل داعش وعلمه وملصقاته إلى ما غير ذلك.
متأخر
بدأ القلق في تركيا في عام 2014 وببطء وجاء متأخرا إذ كان عدد كبير من مؤيدي داعش ومن مقاتليه ناشطين في البلاد بحيث اصبحوا يشكلون خطرًا على أمن البلاد ولكن، وبدلا من اتخاذ موقف ازاء ذلك تجنبت الحكومة الضغط عليهم على أمل الا تتحول تركيا الى هدف.
ونقلت دير شبيغل عن عضو في جهاز الامن التركي قوله في منتصف 2014 إنهم يخافون تنظيم داعش لمعرفتهم أن له خلايا في كل مكان في البلاد وأن بإمكانه تنفيذ هجمات. علما ان التنظيم امتنع عن شن هجمات في تركيا في البداية كي لا يؤثر الامر على الجسور مع بقية انحاء العالم لكن الامر سرعان ما تغير في الصيف الماضي بهجوم على سروج يعتقد بأن التنظيم وراءه لتأجيج النزاع مع الاكراد.
ومع الهجوم وسقوط اكثر من ثلاثين قتيلا اضافة الى الضغط من الولايات المتحدة واوربا اتخذت تركيا إجراءات مثل التدقيق عند الحدود والمطارات واعتقال مشبوهين زاد عددهم على 400 في عام 2015 حسب مجموعة الازمات.
وبعد تردد أولي انضمت تركيا الى التحالف الدولي ضد الارهاب وسمحت للاميركيين بالدخول الى قواعدها العسكرية. ومنذ ذلك الوقت على الاقل أصبح تنظيم داعش عدوا لتركيا واعتبر شريط دعائي صدر عنه اوردغان "شيطانا" ودعا الى "غزو اسطنبول".
ومؤخرا أصدر التنظيم اشرطة فيديو تتضمن تحذيرات باللغة التركية من هجوم قريب كما ذكرت صحيفة حرييت ان جهاز المخابرات التركي تلقى معلومات لمرتين آخرها في الرابع من كانون الثاني (يناير) الجاري عن ان مهاجمين سيتم نشرهم في انقرة وفي اسطنبول. وليلة رأس السنة اعتقل تركيان أقرا بأنهما كانا سينفذان هجوما في العاصمة.
تغير
ونقلت دير شبيغل عن الخبير آرون شتاين قوله من واشنطن إن الهجمات السابقة استهدفت الاكراد، اما الآن فيلاحظ تغير في استراتيجية تنظيم داعش يهدف الى تخريب الاقتصاد التركي من خلال مهاجمة سواح.
ويعتقد الباحث في مجال الارهاب بيتر نيومان من كنجز كوليج في لندن أن منفذ هجوم اسطنبول الاخير من تنظيم داعش وأنه لم يتحرك وحده، مشيرا الى الاشادة بالعملية في المواقع الالكترونية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي المؤيدة لداعش كما قال إن للتنظيم بنى تحتية ممتازة في تركيا والدليل على ذلك هو قيام التنظيم مؤخرا باغتيال صحفييين ومخرج افلام وثائقية.
من جانبه قال مصدر الماني في المخابرات إن من المفترض النظر بعين التمحص إلى اعلان الحكومة التركية اعتقال ثلاثة آلاف شخص في اطار عمليات ضد التنظيم إذ غالبا ما يتم اطلاق سراح الاغلبية وإبقاء عدد قليل جدا منهم قيد الاحتجاز.
ولاحظت الصحيفة ان هناك اشارات ايضا الى ان جهاز المخابرات التركي MIT ربما عمل مع التنظيم .. في الماضي على الأقل. وكانت شحنة اسلحة قد أثارت شكوكا في عام 2014 في أن الجهاز ربما كان يوفر للمتطرفين في سوريا اسنادا مباشرا.
وكان مخبر قد نبه قوات الأمن التركية في ذلك الوقت بشأن شحنة اسلحة تتوجه إلى سوريا فقام الادعاء بتفحص الشحنة ثم منعت الحكومة نشر أي خبر عن الموضوع وتحدثت عن شحنة مساعدات للتركمان في شمال غرب سوريا. ولكن اشرطة فيديو تظهر أن الحمولة كانت ذخيرة في الواقع. وقال منتقدو الحكومة إن الشحنة كانت للتنظيم، ولكن لا يوجد دليل يؤكد ذلك.
هل يمكن الثقة بتركيا؟
وقالت الصحيفة إن هذا الامر يضع المخابرات الغربية في موقف صعب: فهل يمكن الثقة بالأتراك؟
ورغم كل هذا يتعامل الدبلوماسيون الاوروبيون في تركيا مع المعلومات التي يجهزهم بها جهاز المخابرات التركي بشأن هجمات ارهابية محتملة، بشكل جدي. مثلا، قدم الجهاز معلومات عن مهاجمين ارهابيين محتملين في طريقهم الى اوروبا او وصلوا هناك. وقال دبلوماسي خبير في شؤون الامن إن لتركيا شبكة من المخبرين في سوريا والعراق لا يمكن التقليل من شأنها ولا تملكها اي دولة في المنطقة، وأضاف ان الحكومة التركية زادت بشكل ملموس من جهودها لمحاربة داعش خلال الاشهر الستة الاخيرة.
غير ان المصدر لاحظ ايضا ان الشكوك تبقى قائمة بشأن آجندة تركيا السياسية وأضاف "هناك احتمال ألا تكون انقرة راغبة بالفعل في محاربة تنظيم داعش بشكل حقيقي أو أنها تتعاطف معه سرا، إما لانها تريد استخدامه كوسيلة لإضعاف الاسد او لأنها تؤيد افكاره لأسباب دينية (لكونهم من السنة)"، حسب قول المصدر.
ويقارن خبراء آخرون هذا الموقف بمواقف جهاز المخابرات الباكستاني مشيرين إلى ان من الصعب معرفة اي طرف يساند وهل يحارب طالبان او يدعمها او يفعل الاثنين معا في الوقت نفسه.
ويشعر دبلوماسيون اوروبيون بحيرة ايضا لمنح جهاز المخابرات التركي مسؤوليات اضافية في عام 2014 بحيث يمكن استخدامه كأداة للسياسة الداخلية إذ يملك الجهاز الان قدرة أكبر على الدخول على بيانات الشركات والبنوك وعلى بيانات زبائنهم كما يتدخل في الحريات الصحفية ويمكن حاليا مقاضاة صحفيين يكتبون عن نشاطات جهاز المخابرات وإصدار احكام بالسجن عليهم تحت مبرر تهديدهم الامن.
التحديات
علينا القول ايضا إن تركيا تواجه تحديات عديدة منها حزب العمال الكردستاني المحظور ومنها ملايين اللاجئين السوريين ثم دورها في التحالف الدولي ضد داعش وحدودها الطويلة مع سوريا والتي عليها حمايتها اضافة الى أن عليها متابعة مئات إن لم نقل آلافا من "الجهاديين" داخل اراضيها.
ونبهت دير شبيغل الى أثر الضربة الاخيرة على قطاع السياحة في البلاد الذي بلغت عوائده في العام الماضي ما يقارب من واحد وثلاثين مليار دولار لاسيما مع تزايد عدد السواح من روسيا ومن المانيا وإذا ما تضرر هذا القطاع فستزداد المشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد.
ومن هنا نفهم السبب وراء محاولة البلد اظهار قوته إذ بدأ الجيش يقصف عشرات من مواقع تنظيم داعش في سوريا وفي العراق باستخدام الدبابات والمدافع وتم اعتقال 74 مشبوها بكونهم من اعضاء التنظيم في تركيا غير ان هذه الاجراءات قد لا تحقق الكثير على صعيد تدمير التنظيم.
وقال الخبير شتاين "ستكون المواجهة طويلة وصعبة بعد سنوات قام فيها التنظيم ببناء شبكة في تركيا دون عوائق".
النتائج على المانيا
يمكن للهجوم الاخير في اسطنبول ان يؤثر على السياسة ازاء اللاجئين فقبل ايام اعلنت انقرة انها تنوي اصدار تراخيص عمل لللاجئين السوريين وعددهم اكثر من مليونين في تركيا ممن دخلوا البلاد منذ 2011. وهي خطوة من شأنها تحسين اوضاعهم المعيشية في تركيا وتقليل دفق المهاجرين في اتجاه المانيا. ولكن بعض السياسيين الاتراك يتساءلون عما اذا كان يجب فعل العكس تماما.
ولكن الصحيفة لاحظت أن القيود المفروضة على اللاجئين في تركيا وحالة العداء تجاههم قد تكثف الهجرة الى اوربا وقد لا تحاول الحكومة التركية منعهم وعندها سيكون على الحكومة الالمانية التعاون بشكل اكبر مع اوردغان في المستقبل وأن تغض الطرف او ان تنظر في اتجاه آخر عندما يتعلق الامر بالديمقراطية وبحكم القانون وبحرية الصحافة.
وذكرت الصحيفة أن اكثر من مائة شخص ماتوا في جنوب شرق تركيا في الاسابيع الماضية وتم فرض منع التجول في العديد من المدن وتم طرد عشرات الالاف من الاكراد. وقد زاد هذا التصعيد من حالة الاستقطاب داخل البلاد ومنح الجهاديين فرصة لاستغلال الفروقات الاثنية وغضب المقموعين والمهمشين وتأجيج النزاعات بين مختلف الاطراف.
ورأت الصحيفة أخير أن اوردغان سيمنحهم الفرصة التي ينتظرونها للأسف، حسب قولها فبعد هجوم اسطنبول القى الرئيس كلمة امام الدبلوماسيين الاتراك تحدث فيها لأكثر من نصف ساعة عن رسالة مفتوحة وجهها اكاديميون من اجل السلام في جنوب شرق البلاد ثم اعتقل عددا من الموقعين يوم الجمعة وانتقد حزب العمال الكردستاني والمعارضة السياسية.
ويبدو ان هذا هو ما اعتقد انه يستحق الحديث عنه لأن اورغان تحدث عن هجوم اسطنبول بشكل موجز جدا ولفترة تقل عن دقيقة واحدة.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News