هناك من يريد أن ينزع عن هذه المنطقة شرق الأوسطية، كل صفة وعلاقة لها بالعروبة والعالم العربي، وأول ما تتوجه له الأصابع الإتهامية بهذا الخصوص إلى إيران وكل من له علاقة بالإختراقات الإيرانية المستجدة على مجمل الأراضي العربية، فهي قد أغرقت دول المنطقة وما تزال بجملة من الفصائل الإيرانية المقاتلة التي اخترقت وحدتها الوطنية بأشد الوسائل دهاء وخطورة، والممثل بكل ما نراه في هذه الأيام في بعض ساحات العالم العربي من احقاد يتم إطلاقها بشتى الأساليب التآمرية، على أماكن الإرتكاز والسلامة.
ها هو الوزير باسيل وأعماله الدبلوماسية "الفاتحة على حسابها"، بعيدا عن كل منطق توافقي داخلي وقواعد وأعراف معتمدة منذ أجيال، وهي قد تجاوزت حدود المسلّمات التي أجمع عليها كل العرب في مؤتمراتهم القديمة والحديثة، وها هو الرئيس سلام يتبرّأ بالكامل من تصرفات جبران باسيل الوزير المنصَّب في غفلة من الزمن على وزارة الخارجية اللبنانية، مؤكدا أنه، قد أحجم عن التنسيق والتشاور معه بهذا الشأن مؤكدا بأنه لو كان هناك بعض التبرير بامتناعه عن التشاور واتخاذ الموافقة السليمة والمتوافق عليها في مؤتمر وزراء الخارجية، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لمؤتمر جدّة ولإنسياب التوافقات العربية على كل شؤونها السيادية ومتابعة مسيرة التضامن العربي فيما بين أركانها بأرقى وأدق أصولها لا يعكر سبيلها في هذه المسيرة إلاّ الطارئين على الحياة السياسية اللبنانية، الأمر الذي زاد في تعقيداتها ونصب المطبات الوعرة في إطار مسيرتها الإيرانية الصافية، حتى أنها لا تستحي في مفاضلتها بين وضع عربي ووضع إيراني، فتعمد إلى الإنحياز تلقائيا إلى الوضع الإيراني، دون الأخذ بالإعتبار لأية مصالح لبنانية ذات آثار واسعة المدى وعميقة الجذور، يمكن أن تنشأ عن أعمال الطيش السياسي التي يمارسها البعض في هذه الأيام شديدة الحساسية والإضطراب عامدين إلى إدخال لبنان في دهاليز مواقف معقدة ومرفوضة، بدأت تؤدي مع الأسف إلى نتائج مؤذية على المستويين المحلي والعربي.
لقد سارع الرئيس بري بعد أن طاولته "دقّة ورهافة" الوضع التحالفي المستجد، إلى إطلاق جملة من الإستفهامات ومؤداها: هل يراد من حزب الله أن يعمد إلى استعمال القوة المسلحة في عملية إقناع الآخرين بانتخاب العماد عون؟ وبسرعة البرق، أجاب الدكتور جعجع على هذا التساؤل راداً على التحية بأحسن وأظرف منها. ليعود الوضع الرئاسي متوافقاً في موقع انطلاقته الأولى: الصفر. وعاد الفريقان الرئيسان في 14 آذار كل يتغنى بموقفه وموقعه الجديد، مع اختلافات نوعية طاولت توجهات مستجدة لدى الفريقين، وبصورة خاصة فريق القوات، حيث كانت احتفاليتها الأخيرة التي ضمّت قيادتها مع قيادة الوطنيين الأحرار إحتفالا متميزا بدعوة لوحدة الصف المسيحي من خلال ترشيح الدكتور جعجع للعماد عون لمنصب رئاسة الجمهورية، وبقي الخط القواتي السابق الذي عرف عنه من خلال ممارسة القوات على مدى أعوام طويلة في مسالك 14 آذار مجرد تفاهمات منقوصة وباهتة وغير ثابتة، يعلو فيها صدى التفاهمات المسيحية ووحدة الصف المسيحي، وعودة إلى الشعار القواتي القديم: وحدة الصف المسيحي تعلو فوق كل اعتبار.
وبقي السؤال الذي أطلقه الدكتور جعجع واضعا مسؤولية نجاح مبادرته على عاتق حزب الله، سؤالا معلقا على جواب الحزب، وهذا الجواب ما زال حتى الآن معلقا في الهواء.
في مطلق الأحوال، ننطلق من قناعة حادة لدى جميع المواطنين اللبنانيين، مفادها أن الوحدة اللبنانية كلما تكونت عناصرها وتآلفت، لدى أية جهة لبنانية كانت. كان ذلك أنفع وأجدى للبنانيين عموما، ولعملية البناء الوطني على أسس سليمة ومعافاة، يتطلب ذلك في مطلق الأحوال تخليص الوحدات المسيحية التي ظهرت للعلن في المرحلة الأخيرة من ذلك النفس الطائفي الذي باتت أصداؤه تطفو في الأجواء العامة وفي الممارسات المتمثلة بانكفاء كل من فرقاء الوطن بعيدا عن مواقع الآخرين، بما يشبه التموضع في متاريس مصطنعة لم تكن موجودة في سابق الممارسات الذي كان معروفا عن أمثالها أنها كانت تغلّب الطابع الوطني على أي طابع فئوي، وتجعل من الفرضية الوطنية ومطالبها وشعاراتها، مرتكزات أساسية لعملية البناء المستقبلي.
ما حصل على صعيد «تفاهمات» القوات والتيار الوطني هو في واقعه، إنتقال بالمؤسسة القواتية إلى مكان آخر سبق لها أن كانت تعمل في إطاراته مع محاولات لإعطاء المتغيرات والمتحولات، ما أمكن من المعالم التلطيفية والتجميلية بحيث تصل إلى عقول الآخرين وأدراكهم بشكل معقول ومقبول. وهذه المحاولات، من المصلحة العامة الأكيدة، أن تؤخذ بعين الإعتبار لعل شكل التماسك والتكامل لدى قوى 14 آذار بمفهومه السابق، أن يعود إطارا للعمل الشعبي الذي انطلق من مناسبة وطنية عارمة الطوفان في مدلولاتها ومشاريعها الوطنية السابقة، إن نزول ما يناهز المليون ونصف مليون لبناني إلى ساحة الشهداء في تلك الأيام الجياشة بالأحاسيس والتطلعات الوطنية عالية السقف والآمال والتي تلت عملية إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله، لم يكن مناسبة عابرة يمكنها ان تزول بشحطة قلم أو بقرار رئيس أو قائد مهما علا شأنه. إن حركة الرابع عشر من آذار قد باتت إرثا شعبيا تأصل في قناعات مئات الألوف من اللبنانيين ويحق لكل لبناني أن يتشبث بمضمونه ومدى التعلق بأهدافه الرامية إلى إرساء هذا الوطن على ركائز الإنقاذ والخلاص. المشكلة، أن العواصف في هذه المنطقة الحساسة من العالم، تزداد حدّة وشدّة، وليس هناك ما يمكن أن يضمن حتى الآن، وجود أي تطور تحظى فيه بسماء صافية، وبنتائج سياسية تلائم آمال الناس وتوقعاتهم، خاصة بعد استفحال أعمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وتغيير الشكل السكاني العام في أكثر من منطقة عربية، الأمر الذي يجعل من الأوضاع العامة قابعة على كف عفريت، وفي ترقب دائم لزلازل مرتقبة.
وشكرا لبنانيا خالصا لمن أدخلنا في هذه المعمعة المذهبية الخالصة التي باتت أطرافها وتعقيداتها ممتدة إلى مجمل أنحاء المنطقة العربية، متعايشة ومشاركة في كل الأوزار الدامية التي نشهدها ونتلقى نتائجها المؤسفة.
بعد انتهاء العاصفة، لا بد من بعض الصفاء في الأجواء. آنذاك يكون الكلام أسلم وأجدى.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News