خاص ليبانون ديبايت- العميد المتقاعد جورج نادر
كثرت الأقاويل والتحليلات حول توقيت واهداف العملية العسكرية التي قامت بها مجموعة من وحدات النخبة في الجيش في جرود راس بعلبك، وفي غالبها إجتهادات تهدف إلى زجّ عمل الجيش وتحرّكاته في زواريب السياسة الداخلية، وإستثمار العملية في ملف إنتخابات رئاسة الجمهورية، لكن الواقع مغاير تماماً للتخمينات الصحفية والسياسية.
إن ما حصل ليل 9-10 آذار في جرود راس بعلبك، هو دون شك، عملية نوعية خاطفة تتسم بالدقّة والإحتراف، نفّذتها وحدات متخصّصة في القتال خلف خطوط العدو.
الواقع، هو أن أجهزة الإستعلام الميداني رصدت تحركات وإتصالات للإرهابيين، إستشفّ منها التحضير لعمليات ضرب مركز أو مراكز للجيش في جرود السلسلة الشرقية، دون تحديد المراكز المنوي إستهدافها، لذلك قرّرت قيادة الجيش القيام بهجوم إستباقي يسمّى بالتعبير التقني " إغارة دون إحتلال الهدف " ترمي إلى تدمير منشآت وتحصينات العدو وقتل واسر أفراده، بغية ضعضعة صفوفه وضرب معنوياته ومنعه من تنفيذ عملياته التي يخطّط لها.
فكان الهجوم الذي هو افضل طريقة للدفاع على حدّ قول كارل فون كلاوزفيتز.
التحضير تمّ بسرية تامّة، والتخطيط شمل أدقّ التفاصيل:
- تحديد مسالك الذهاب والإياب، توزيع المهمات على المجموعات من مجموعة الدعم والمساندة التي تقوم بتأمين تحرّك مجموعة الهجوم، إلى مجموعة التلقّي ومهمتها تأمين إنسحاب القوى المهاجمة، إلى مجموعة الإطباق ومهمتها مهاجمة العدو وتدميره.
- تحضير وتجهيز وسائل الرؤية الليلية والسلاح الخاص ووسائل الحماية والإتصال والكاميرات الحرارية.
- إختيار تاريخ إحتجاب القمر بحسب الجدول الفلكي، حيث يكون نور القمر الأقل إنارة خلال الشهر القمري بغية حجب رؤية القوى خلال تحرّكها.
- كل التفاصيل الأخرى المتعلقة بالتنسيق مع القوات الجوية وقوات الدعم الناري ( المدفعية ) لتأمين مساندة القوى المهاجمة وإنسحابها بالنار بتوفير الغطاء الناري لها، والتنسيق مع اللواء المنتشر في البقعة لتأمين إجتياز خطوطه بإتجاه عمق أراضي العدو وفي العودة الدخول في جهازية الصديق.
إجتيازخطوط الصديق تمّ في الساعة 19 ليل 9 آذار، من منطقة وادي رافع، وبعمق 6 كلم في بقعة إنتشار العدو، أراضِ جبلية وعرة لا وجود للغطاء النباتي فيها، وترتفع من 1400 إلى 1600 متر عن سطح البحر، لكن النقص في الإستعلام كان واضحاً، بحيث أن المجموعة المهاجمة لم تكن تدري أن محيط المراكز / الأهداف هو حقول الغام جهّزها العدو للدفاع عن مراكزه، إذ قبل الوصول إلى النقطة الأخيرة ما قبل الهدف، حيث تجري آخر عملية تنسيق وتأكيد على الأدوار والمهمات، وتجرى آخر عملية إستطلاع للهدف، وبمسافة 600 متر عن الهدف، إنفجر لغم ارضي بالمجموعة، ولحسن الحظ لم يصب أحد منها، حتى أن العدو لم يسمع صوت الإنفجار لأن إتجاه الريح كان من الشرق بإتجاه الغرب، عكس إتجاه تقدّم المجموعة المنفّذة.
هنا فوجىء آمر المجموعة بحقل الألغام وأصبح التنقّل بحذر وبطىءٍ شديدين ، وعمد عناصر الهندسة إلى تفكيك العبوات والأسلاك التي تصل الألغام ببعضها: النتيجة المجموعة دخلت حقل الألغام.
خبرة وحدات النخبة في التعامل مع مواقف مماثلة دفعت بآمر الدورية إلى متابعة التقدّم بعناية ودقّة وهدوء أعصاب، لكن مما زاد في تعقيد الوضع هو أن التلّة التي كان مخطّطاً أن تحتلّها عناصر المساندة والدعم كانت مزروعة بالألغام ايضاً، عندها إتصل بقائد وحدته:
"إنفجر لغم أرضي ولم يصب أحد، وتلة المساندة ملغّمة، والتحرّك في حقل ألغام ".
"سلامة العسكريين أهمّ من التنفيذ، إذا وجدت أن حياة العسكريين معرّضة للخطر، يمكنك العدول عن التنفيذ والعودة ".
لكن آمر الدورية اصرّ على متابعة التنفيذ وإضطرّ إلى تعديل الخطة جزئياً :
- تم تمركز مجموعة الدعم والمساندة على تلة أخرى لكنها لا تتمتّع بالميزة العسكرية لتلك التي كان مقرّراً إستخدامها.
- تم تعديل إتجاه الهجوم وخط الإطباق في اللحظة الأخيرة على الأهداف الثلاث: مراكز متقاربة يتحصّن فيها العدو.
هوجم المركز الأول للمسلحين وتمّ تدميره ، ثم هوجم المركز الآخر، عندها تعرّضت الدورية لإطلاق النار من المسلّحين في المركز / الهدف الثالث ، وهنا، تدخّل سلاح الطيران الذي كان جاهزاّ في سماء البقعة، ودمّر المركز الذي تطلق منه النيران، وقصف خطوط إمداد قوات العدو، كذلك قامت مرابض المدفعية برمي مسالك تحرّك العدو وأماكن تمركزه المعروفة لتأمين الغطاء الناري للمجموعة المنفّذة .
إستمرّ الإشتباك 15 دقيقة، من الساعة 3:30 وحتى الساعة 3:45 فجر 10 آذار، وكانت الحصيلة :
قتل المسلحين المنتشرين في المركزين الذين تم تدميرهما، وإستشهد الجندي محمد حسام السبسبي وجرح أربعة عناصر بجروح بليغة، حُملوا جميعاً من قبل رفاقهم ولمسافة 6 كلم تحت حماية مجموعة الدعم والمساندة ورمايات سلاح الطيران والمدفعية، وذلك حتى الدخول في جهازية الصديق.
إن هذه العملية بحدّ ذاتها ، هي عميلة نوعية تدلّ على إحتراف عناصر وحدات النخبة في الجيش وجرأتها وشجاعتها في التنفيذ وبرودة الأعصاب وحسن التصرّف حيال الحوادث الطارئة، وتدلّ أيضاً على عمق الروابط ومتانتها بين عناصر تلك الوحدات، بحمل الشهيد والجرحى لمسافة أكثر من ساعتين في أراضِ وعرة وليل مظلم تماماً، وتحت نيران العدو وخطر الألغام .
لكن، بعد النقص الهائل في المعلومات التي أوقعت الدورية في حقل ألغام، يقتضي تنمية قدرات أجهزة الإستعلام الميداني وتفعيل دورها وتجهيزها، لأن الإستعلام العملاني هو نصف المهمة، فقد قال " سان تزو " في كتابه فن الحرب:
أن تعرف عدوك ، يعني أنك ربحت نصف المعركة .
في النهاية ، يستحسن أن لا نسترسل للتحليل والتخمين الصحفي، بل أن نحيّي أولئك الجنود الشجعان الذين إرتقوا إلى مستوى وحدات النخبة في أفضل جيوش العالم، وهم يبرهون يوماً بعد يوم، على أنهم الذراع التي لا تُلوى، والقبضة الحديدية الجاهزة دوماً للدفاع عن أرض الوطن .
كان من الأفضل، بدل إطلاق الأقاويل وإختلاق أهداف سياسية للعملية، أن ننحني لروح الشهيد محمد حسام السبسبي، إبن بلدة ببنين ، مقلع الشهداء، ومنطقة عكار، نبع الرجال وخزان الجيش.
وأعتقد أن هذه العملية لن تكون الأخيرة ، فالهجوم الإستباقي هو افضل طريقة للدفاع ، وستستمرّ هذه العمليات النوعية طالما هناك مجموعات إرهابية تحتلّ جزءاً من أرض الوطن ، وذلك بغية منع الفتنة السورية من ضرب النسيج الوطني .
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News