ليبانون ديبايت - الحلقة التاسعة عشر من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
إعتباراً من الأول من تموز العام 2002 ولمدّة سنة (2003) تابعت دورة الأركان العليا في كلية الجيوش المشتركة للدفاع (مدرسة الحرب العليا) في فرنسا، وكنّا حوالي 320 ضابطاً منهم 120 من الأجانب من جنسيات مختلفة، و 20 ضابط من البلدان العربية.
تابع الدورة ضابط من جيش العدو الإسرائيلي (الرائد غولان بار ليفي)، وكان الضباط العرب، مشتّتون لا كلمة تُسمع لهم، وبعضهم لا همّ لهم إلا "شم الهوا والتسلية"،كما قال لي أحدهم، لا يبالون بالمعارف العسكرية والأكاديمية التي تتضمّنها الدورة، ولا بالثقافات المختلفة التي يخالطونها، وقد حاولت جاهداً على أن اجمعهم في "إفطار" خلال شهر رمضان، فكان كلّ منهم يضع شروطاً للحضور :
- ممنوع وجود الخمور
- ممنوع النساء
- أنا لا اتكلم مع الضابط الفلاني.... ذلك الحقير.., ألخ....
هكذا لم افلح في جمعهم حتى في المناسبات الدينية على غرار ما نفعل في ثكناتنا، حيث نقيم إفطاراً على الأقل لمشاركة رفاق السلاح الصائمين.
حاول الضابط الإسرائيلي مراراً، ومن خلال ضابط أميركي زميلي في الفريق الدراسي، أن نتبادل ولو التحيّة، فأجبت "كريست - وهذا إسمه - أنت صديقي وإذا كنت تريد البقاء كذلك لا تلفظ إسمه امامي، كيف لي أن أضع يدي بيد الذي قتل أهلي ودمّر وطني (وكانت لا تزال مجزرة قانا وصورة " طفلة المنصوري " في ذهني)، ثم أننا في حالة عداء بيننا فلا تحاول ذلك أبداً...
عوملنا في الدورة كسفراء لبلداننا، كذلك نظّمت إدارة الكلية نشاطات ثقافية وسياحية لزوجات الضباط الأجانب، والذكرى الأجمل كانت الطيران لمدّة 75 دقيقة بالطيران الحربي النفّاث.
تحضرني خاطرة حصلت خلال إحدى المحاضرات للدلالة على عدم جدّية الضباط العرب في متابعة الدورات خارج بلادهم (لا ادري إذا كانت هي حالهم في بلدانهم).كان أغلب الضباط العرب غير الفرنكوفونيين يتابعون، وقبل بدء الدورة، دورة في اللغة الفرنسية لمدّة ستة اشهر على الأقل، كي يستطيعوا مواكبة رفاقهم الفرنكوفونيين في الدورة حيث اللغة الفرنسية هي الوحيدة السائدة، وكان اغلبهم : " تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي " :
المحاضر بروفسور فرنسي يهودي يضع القلنسوة الخاصة بالمتشدّدين اليهود، والموضوع : الإرهاب في الشرق الأوسط، وقد " اجاد " في وصف " الإرهاب " الفلسطيني، ولم يعترض أحد من الحضور. الفرنسيون يشجّعون طرح الأسئلة مهما كانت، فقمت بمداخلة وصفت فيها " إسرائيل " بدولة الإرهاب، وكيف أن الشعب الفلسطيني المقهور يحاول بأية طريقة كانت الحصول على أبسط حقوقه، وهم يتّهمونه بالإرهاب.
صفّق الحضور بحرارة، وكانوا بالإضافة إلى ضباط الدورة ال 317، عدد لا بأس به من الوجوه الأكاديمية، وبعد إنتهاء التصفيق قام الضابط اليمني وحيداً،(غير فرنكوفوني) وكان يجلس في المقعد أمامي، وصفّق عالياً وصارخاً بالصوت العالي حتى سمعه كل من في القاعة :
"زين النشاما، زين النشاما"
فأشرت له ان يجلس، وقلت له " هل فهمت ما قلته أنا كي تصفّق أنت ؟ " أجاب " لا والله بس شفت أنك أفحمتو ".
زيارات تعليمية للتعارف على وحدات الجيوش الفرنسية كنا نقوم بها : القواعد البحرية والجوية وأفواج القوى البرية والمعاهد التدريبية، والزيارة الأجمل كانت إلى أحد افواج الطوافات " الغازيل " في مدينة BESANCON.
وصلت المجموعة التي أنتمي إليها المؤلفة من 13 ضابط من جنسيات مختلفة سبعة منهم فرنسيون، ودخلنا مكتب قائد الفوج الذي وقف على الباب مستقبلاً، ولما مثلت أمامه للتعريف عن نفسي لاحظ العلم اللبناني الذي يمثل وسام الأرز الوطني على بزتي العسكرية، فقال : " Attendez mon Colonel vous êtes Libanais.. على مهلك حضرة المقدم، أنت لبناني ؟"
- " نعم سيدي "
- أنا خدمت في لبنان خلال أواخر العام 1983 وأوائل العام 1984..
- " هل كنت من عداد فوج المظليين الأول ؟ " عندها إنتبه وتذكر شيئاً فقال لي :
" نعم.. نعم.. دعني أحزر.. أنت الملازم.. "
عرفته عن إسمي، وكان هذا الضابط هو آمر الفصيلة التي درّبت فصيلتي من الكتيبة 94 خلال العام 1983 في حرج بيروت ووطى الجوز، وكان صديقاً طيباً لي ونحتفظ معاً بذكريات جميلة.. يا لها من مصادفة بعد حوالي 20 سنة إلتقيته فكانت المفاجأة منه عندما توجّه إلى ضباط الفريق: "من أجل صديقي اللبناني أهديكم ساعة ونصف طيران ليلي بالطوافة غازيل".
من الذكريات الجميلة في هذه الدورة الطيران في الطائرة الحربية.
أعطي الخيار للضباط كافة بالطيران المروحي أو النفّاث، فإخترت الأخير، لكنّ ذلك يتطلّب الخضوع لفحص طبّي للتأكد من أهلية الضابط للطيران على علو شاهق.
"حضرة المقدّم.. أنت غير جاهز للطيران، أنا آسف "
قالها لي النقيب الطبيب الفرنسي في قاعدة BALARD الجوية قرب باريس، بعدما راى يدي ورقبتي ووجهي وظهري وآثار الإصابات فيها. فأجبته:
"أتريد، وانت الضابط الأصغر سنّاً مني أن نتبارى في الركض؟"
"Mais vos mains ne sont pas foctionnelles et vous ne pouvez pas sauter par le parachute au cas ou l’avion tombe"
" وهل تريد المبارزة بال Push up لنرى من هو صاحب اليدين الأقوى؟"
رضخ عند إصراري، وأعطاني الأذن الصحّي بالطيران، وكانت ساعة وربع من الطيران الأجمل في حياتي العسكرية. لا زلت أذكر الضابط الطيّار من قاعدة TOUR الجوية، الذي رافقته في الطائرة الحربية " Alfa Jet" والذي أجلسني في المقعد الخلفي، كيف كان " يسايرني "ظاناً أنني خائف من الإرتفاع الشاهق: " هل تريد أن تتعلم كيف " تجنّح " الطائرة ؟ "
دلّني على الأزرار وكيفية إستخدامها وعلى عتلة القيادة ثم قال: "مِل بها برفق لجهة اليمين "، لكن الطائرة " برمت " دورةً كاملة قبل أن يعود ويستلم إمرة القيادة قائلاً : " Mon colonel c’est un avion et pas un char " حضرة المقدم هذه طائرة وليست دبابة.
تحضرني حادثة حصلت خلال الدورة في فرنسا، فقط للمقارنة بين ثقافة الشعبين اللبناني والفرنسي:
دورة الأركان العليا في مدرسة الحرب يحاضر فيها باحثون وأكاديميون ومسؤولون حكوميون، ويشارك الضباط حضوراً الوجوه الأكاديمية والإجتماعية والسياسية. تقرّر حضور الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك وإلقاء كلمة عن التعاون الفرنسي مع مختلف دول العالم.
إنه رئيس الجمهورية، لا سيارات مواكبة، ولا سلاح ظاهر، سيارتان فقط باللباس المدني تظن لأول وهلة أنها سيارات عادية لشخصية عادية، دخل الرئيس قاعة المحاضرات فقال الضابط المدرب : "Monsieur le Président de la République " السيد رئيس الجمهورية، فوقف الحضور إحتراماً، وقف الرئيس على المنصّة وقال : Bonjour Messieurs SVP asseyez vous” " نهاركم سعيد أيها السادة أرجوكم تفضلوا بالجلوس، ثم إنتبه أن من بين الضباط المتدربين ثلاثة نساء، فقال: " بينكم سيدات، أعتذر، سيداتي وسادتي تفضلوا بالجلوس "... نعم رئيس الجمهورية إعتذر من الحضور لأنه لم يذكر النساء، تهذيباً، قبل الرجال لعدم ملاحظته وجودهن.
في المقابل، لأول مرة تزور دورة الأركان العليا لبنان كزيارة تعليمية وسياحية، فإخترت أن أكون مع الضباط الأجانب الزائرين لألعب دور المرشد والدليل للزملاء الأجانب في لبنان، ودعت كلية الأركان اللبنانية ضباط الدورة الفرنسية والبالغ عددهم 110 أشخاص مع زوجات البعض منهم، إلى عشاء تكريمي في المجمّع العسكري في جونيه. حضر الضباط الفرنسيون والأجانب واللبنانيون، وتأخر وصول قائد كلية القيادة والأركان إلى الحفل، خرجت إلى مدخل المجمّع فرأيت مساعد قائد الكلية ينتظر، سألته :
" ليش بعدك ناطر هون..؟"
" ناطر ت يوصل قائد الكليّي بدّي أهّبلو الصف " أي أنه يريد أن يصرخ " تأهب" لوصول قائد الكلية إلى حفل عسكري مدني معظم الحضور ضباط ونساء أجانب...
" بس ما بيسوا تصرخ تأهب بس يكون في مدنيي، وهون في أجانب كمان.."
"ولو كان، هيك هوي بدّو.." عندها تدخّل ضابط المخابرات – فرع الأمن الاستراتيجي،الذي يواكب الحفل ووافق على كلامي وأعطى أمثلة لمساعد قائد الكلية لأنه بوجود مدنيين ينتفي الطابع العسكري الصرف على الحفل، ولا " يُأهّب " الحضور، فإقتنع على مضض.
وخلال العشاء، لاحظت إمتعاض قائد الكلية لعدم "تأهيب" الحضور "تكريماً " لشخصه، فنظّم في اليوم التالي تقريراً عن الحفل ذكر فيه أن الطعام لم يكن بالجودة والكمية المطلوبتين "فجرّصونا" الأجانب، والجدير بالذكر أن المجمّع العسكري قد سخى بكل أنواع الطعام اللبناني وكانت ردة فعل الأجانب ممتازة لحسن الضيافة والكرم.
هل لاحظنا الفرق؟ رئيس جمهورية وصل بدون "طنة ورنة" ويعتذر لعدم ملاحظته وجود نساء في القاعة، وقائد كلية يريد أن " يأهب "نساء أجنبيات" إحتراماً "لحضوره، فيزعل، ويحرد، ويتّهم الغير بالتقصير.
فور عودتي من دورة الأركان في فرنسا، شُكلت إلى فوج المغاوير مساعداً لقائد الفوج الذي كان آنذاك العقيد "عباس إبراهيم" المدير العام للأمن العام حالياً.
سألني أحد الرفاق: "لوين تشكّلت؟"، أجبت: "ع بيتي".
إذ كنت اشعر أنني عدت إلى الفوج الذي أحبّ، وخدمت فيه سبع سنين متواصلة، ولا ازال أحتفظ منه بأصعب وأجمل الذكريات في آنِ معاُ.
(في الحلقة القادمة العودة الى فوج المغاوير وتحديات الحقبة…)
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News