أبيض يميل الى الرمادي، يغلّف جدران المدخل الجنوبي لبيروت، وكأن ّعمراً من الأمنيات والثورات والأحلام والشعارات والأمزجة والطائفية والأيديولوجيات ومكنونات الأحبة والمتخاصمين بات من الأمس، أو أنه تمازج مع اللون الواحد في مشهد حضاري لبوابة مدينة، لكنّها النوستالجيا تحنّ على الدوام إلى كتابات «الغرافيتي» المؤرخة على مر السنوات المنصرمة، تاركة مساحات بيضاء في الذاكرة التي تخبئ عبارات راسخة من مثل «سودة يا سودة» وغيرها الكثير.
وهي النوستالجيا أيضاً، تدفع للسؤال: إلى متى يبقى الأبيض على نضارته، خالٍ من المشاعر والاعترافات والسياسة والاقتصاد..، وهو حال لم يعتده اللبناني الذي في كل طريق له أثر وجداريات ناطقة باندفاعته وعبثيته وفوضاه وآماله وأحلامه وتخبطه صعوداً وهبوطاً في يوميات لا تنتهي، ومع ذلك ثمّة مرحلة ستفتقد على ذلك الطريق الطويل الآخذ الى الأنفاق والى المدينة والى زحمات سير لا تنتهي.
وفي الزحمة تفتقد «الغرافيتي»، تلك المواكبة لأسراب السيارات ولعيون السائقين تلاحق الكتابات مرات بالاستنكار وكثيراً بابتسامة ساخرة لعبارات باتت مثل هوية المكان، فأن تذكر عبارة «يا سودة« يعني أن المقصود هي طريق المطار، وأن يحضر اعتراف «بحبك يا حمارة» يعني أنه مقتبس من تلك الجدارية المرورية الشهيرة، وعلى المنوال عبارات من مثل «عزوز يا باطح الأرض»، «الحياة جزرة كبيرة»، «حرقناكم والشمس طالعة»، «بحبك يا بيدو»، «نفسي موت»، «إنت الزعيم».. وغيرها الكثير من اعترافات تأخذ مدونيها إلى مبدأ قديم جديد مفاده: «أكتب على الجدران، إذاً أنا موجود».
وفي الزحمة أيضاً، على امتداد «الفراغ» الأبيض المستجد على الجانبين، لاشك ستطول الطريق من اليوم فصاعداً، وربما يستبدل العالقون بين الجدران عاداتهم اليومية بجدران التواصل الاجتماعي حيث المدونات هي الأخرى محتدمة، لكنّ حنيناً سيبقى إلى مشهد يعرف اللبناني بأنه في بلدان كثيرة يصنف بغير المطابق، إلا أنّ فيه روحية المكان وكلمات لا تقوى الفرشاة على طمسها من الذاكرة، وفيه أيضاً وجه الشبه بين اللبناني وأحواله المتأرجحة في الحياة والسياسة والمجتمع والاقتصاد بين الذاكرة والممحاة والعبرة والموعظة وفشّات الخلق وتسجيل المواقف، وفيه اختبار فتح صفحة على بياض برصيد قد يأتي فارغاً أو ملغوماً بالنيات التجميلية أو تلك التي تضمر قناعاً لوجه البلد.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News