نضع جانباً النقاش الأخلاقي الخاص بكيفية التعاطي الأمثل مع قضية اللاجئين السوريين في لبنان. فلا عنصرية بعض اللبنانيين تحتاج إلى الإشارة بالبيان لوضوحها، ولا دفاع بعضهم الآخر عن حقوق اللاجئين ممكنٌ إنكاره (مع الأخذ بالاعتبار في الحالتين ضعف الطاقة الاستيعابية للبنان، لناحية ضيقه الجغرافي واكتظاظه الديموغرافي وقلة موارده وتعطل أجهزة دولته). نرصف جانباً أيضاً الجدل الذي أثير حول مصطلح «اللجوء» وتفضيل البعض استبداله بمفردة «نزوح» لما يحمله الأول من معانٍ قانونية وينتجه من تداعيات، أقله وفق أصحاب «الهواجس» من اللبنانيين. نعزل كذلك الأزمة السورية عن بعديها السياسي والأمني، مؤقتاً. ماذا بقي لدينا؟
ثمة سؤال استشرافي حول طبيعة العلاقة بين اللبنانيين والسوريين، بالمعنى السوسيولوجي، بعد أن تضع الحرب السورية أوزارها. والمقارنة مع «الحالة الفلسطينية» التي شكّلت أصل الهاجس التاريخي في العقل الجمعي لبعض «الجماعات» اللبنانية مغرية، ولو أن علاقة الفلسطينيين ببعض هذه «الجماعات» تحولت خلال الحرب وبعدها.
ثمة عوامل تساعد على انزياح هذه العلاقة عن السياق الذي تشكلت خلاله العلاقة المُعيبة بين اللبنانيين والفلسطينيين، بمثل ما يمكنها أن تفكّ قليلاً من عقدة بعض اللبنانيين، المفهومة، من قضية «اللجوء».
من بينها أن اللجوء الفلسطيني تحول سريعاً إلى حالة مفتوحة على أفق زمني مديد مقارنة باللجوء السوري، المؤقت، بمعزل عن استطالة الحرب. ومنها تعدد حلفاء أو مرجعيات القوى السورية المتقابلة، وهذا، وإن كان مؤشراً سيئاً في المبدأ، إلا أنه جعل عداء اللبناني (المتحالف مع المرجعيات نفسها) للسوري بوصفه كذلك، كما فعل بعض اللبنانيين في تعاملهم مع الفلسطينيين أثناء الحرب الأهلية، مجافياً للمنطق السياسي، برغم عدم انسحاب الأمر ذاته على المستوى الاجتماعي تماماً.
يُضاف إلى ذلك عدم انخراط اللاجئين السوريين في صراعات لبنانية بينية، خلافاً للحال الفلسطيني (ولهذا التباين ظروفه التاريخية الشارحة التي لا مجال لتفصيلها). حتى الهوامش الميدانية التي حظيت بها جماعات «جهادية» سورية نتيجة الضغط الأميركي والسعودي على الحكومة اللبنانية لعدم الحسم في جرود سهل البقاع مثلاً، لم تأت في سياق اصطفاف لبناني - لبناني، إذ استهدفت هذه الجماعات مؤسسات الدولة اللبنانية ككل، ولو أن مقصدها الأساس كان «حزب الله». علماً أن الانخراط اللبناني في الميدان السوري جعل المسألة أكثر تعقيداً، سواء بشكله العسكري المنظم («حزب الله») أو المتأتي عن تجنيدٍ في صفوف الجماعات السورية المقاتلة، مع ما رافق ذلك من تسهيلات سياسية ولوجستية من جانب قوى لبنانية معادية للنظام.
في المقابل، كان يُفترض بالعمل السياسي المشترك أن يُحتسب في مصلحة تطور العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية بعد الحرب (يشير الباحث صقر أبو فخر مثلاً إلى أن نسبة اللبنانيين في التنظيم الطالبي لحركة «فتح» فاقت الستين في المئة من منتسبيها مطلع السبعينيات)، بيد أن الخروج العسكري الفلسطيني من لبنان العام 1982 أنتج جلاء موازياً لكثير من النخب الفلسطينية المرتبطة بـ «منظمة التحرير» عن البلد، وهو ما عطل العامل المذكور، في مقابل وجود نخب سورية ثقافية أو اقتصادية في لبنان، سيكون لها دور بالغ الأهمية في صوغ مستقبل العلاقة بعد ختام محنة اللجوء، أو بداية المسار في الاتجاه ذاك.
لكن لعلّ أكثر ما يؤثر في هذا السياق هو وعي اللبنانيين المُنتظر، المتفهمين منهم لواقع الحال و «المهجوسين»، بحاجتهم الوجودية إلى سوريا الجديدة بعد الحرب، كأفرادٍ حتى.
حينها لن تكون سوريا متنفساً للبنان فحسب، بل للبنانيين المُنزوين في جنتهم الصغيرة، أو سجنهم الكبير.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News