مختارات

جميل مطر

جميل مطر

السفير
الخميس 06 تشرين الأول 2016 - 06:57 السفير
جميل مطر

جميل مطر

السفير

أي أمل يرجى في غرب ينحدر؟

أي أمل يرجى في غرب ينحدر؟

قيل الكثير تشخيصاً ورأياً في الحملة الجارية حالياً لانتخاب رئيس للولايات المتحدة الأميركية. بعض ما قيل صدر متأثراً بحماسة أجهزة الإعلام التي وجدت في أحد المرشحَين فرصة لا يصح تفويتها إذا حسن استخدامها لصنع معركة انتخابية تدر دخلاً وفيراً. بعض آخر مما قيل صدر متأثراً برغبة النخبة المهيمنة في الحزبَين تحريك الركود السياسي الذي أمسك بخناق واشنطن في ظل حكم باراك أوباما، وكاد بالفعل يكتم أنفاسها. أكثر ما قيل ويقال يعود في رأيي ورأي آخرين إلى تطورات وتوجهات سياسية أعمق وأخطر.

صديق أميركي تخصص في العلاقات عبر الأطلسي علَّق على الحملة الانتخابية الأميركية بقوله، هي الحملة الأشد قبحاً في تاريخ الانتخابات الأميركية. أطلق الصديق تعليقه واستطرد قائلاً ما معناه أن الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات لن يكون أحد المرشحَين، إنما الغرب كجماعة بشرية تعتنق عدداً من المبادئ الحقوقية والأخلاقية، وتعتقد أنها حملت على أكتافها عقوداً أو قروناً مسؤولية التبشير برسالة. تصدرت الديموقراطية هذه الرسالة أسلوباً للحكم بنماذج متعددة تصلح للتطبيق في كل الثقافات والعوالم. عاشت جماعة الغرب تفخر بأن رسالتها كانت وراء معظم الانجازات العلمية والقفزات الواسعة التي حققتها البشرية عبر العصور الحديثة. كذلك آمنت، أو على الأقل كانت تؤمن حتى وقت قريب، أن لا عودة عن الديموقراطية لمن تبناها ومارسها، هي طريق في اتجاه واحد، إذا سلكته الشعوب فلن تحيد عنه.

أما الشعب الذي لم تساعده الظروف ليسلكه فسوف تظل أحلامه متعلقة به وبالنماذج المختلفة التي يقدمها والانجازات الراقية التي يكشف عنها. كان الظن أن الشعوب لن تتوقف عن المطالبة بها وأن الحكام، حتى المستبدين منهم، لن يتوقفوا عن تأكيد التعهد بتبنيها ذات يوم قريب أو بعيد. أصحاب هذا الظن كثيراً ما اطمأنوا إلى أن إقبال حكام عديدين على تشجيع صناعة الدساتير والتزامهم الاتفاقات الدولية يعني ثقة خفية في الديموقراطية. سقط الظن أو كاد، وشواهد سقوطه كثيرة، ليس أقلها شأناً عدد الدول التي انحرفت مساراتها في السنوات الأخيرة عن مسيرة الديموقراطية واحترام حقوق الانسان. هذا على الأقل هو ما تشهد به آخر إحصاءات «فريدام هاوس»، المؤسسة الأميركية المتخصصة في قياس نمو أو تآكل الممارسة الديموقراطية، بل إن هناك من نقل عن رؤساء غربيين الاعتقاد أنه ربما كان الحكام العرب على حق حين حذروا من أن تطبيق الديموقراطية في بلادهم في الوقت الراهن لن يخدم هدف الاستقرار.

تأكدت الظاهرة، ظاهرة انحسار تيار الديموقراطية بمضمونها الغربي في العالم بأسره. صحيح أن نخباً حاكمة سربت لأنظمتها «الديموقراطية» مضامين أخرى رافضة المضمون الغربي، إلا أنها لم تتجاسر وتعلن أن أساليبها في الحكم المطلق صالحة للبقاء والاستمرار في المجتمعات كلها آجالاً طويلة. زعمت وتزعم أن الديموقراطيات التي اختارتها بمضامين مختلفة عن مضمون الديموقراطية الغربية إنما هي تجارب موقتة أو محلية، هدفها النهائي الوصول إلى الظروف التي تسمح بتبني ديموقراطية الغرب. عشنا في الشرق الأوسط سنوات في ظل دساتير وقوانين حقوق لا تعمل، ولكنها قائمة لزوم تبريد الشعور بالذنب تجاه الغرب ولتفادي عقوباته. عشنا، وبخاصة دبلوماسيتنا، نتفنن في إقناع الغرب بأننا مجبرون على سلوك مسالك الاستبداد لتحقيق نمو أسرع أو استقرار أطول. أقمنا هياكل تشريعية على النمط الغربي لم تقنع أحداً، لا الغرب خُدع ولا أطراف العلاقة المباشرين ناخبين كانوا أم منتخبين أخذوها مأخذ الجد. عشنا، نحن أعضاء النخب السياسية في أنحاء العالم النامي كافة، نحرص على رضى الغرب، نعيب عليه تجاوزاته الإمبريالية وازدواجية تعامله مع القيم الإنسانية والأخلاقية، ولكن في النهاية عشنا ننتظر حكمه على أدائنا في النمو وقدرتنا على حماية مصالحه. عشنا كل هذا وعاشته معنا شعوب كثيرة قبل أن نصل معه، نحن مع الغرب، إلى نقطة مفصلية في تطور العلاقات بيننا، هي اللحظة التي نعيشها معا الآن.

لم نصل معاً إلى هذه النقطة من فراغ. ما زالت فيتنام تتلوى بآلام خلّفتها حربان فرضتهما فرنسا وأميركا، الأولى كانت للرغبة في البقاء هناك كقوة استعمار من النوع البغيض جداً، والثانية كانت للحاجة لفرض النموذج الأميركي نظاما للحكم. كذلك الحال في الشرق الأوسط الذي يعيش مخاضا أليما منذ تدخلت أميركا في العراق لإسقاط حكم رجل يعبد الحكم ويقدس نفسه ولتغيير أسس الاستبداد. تدخلت تحت ضغط وتخطيط وتنفيذ مجموعة من المخربين أساؤوا استخدام شعارات الليبرالية والديموقراطية. جاؤوا من خلفية استشراقية وعنصرية. دمروا وخربوا وفككوا هياكل اجتماعية وسياسية وحاكموا رئيس الدولة وأعدموه ورحلوا. سكت أهل الشرق الأوسط عن المطالبة بتحقيق دولي يكشف حقائق ويذيع وقائع عن واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، جريمة فكرتها أشبه ما تكون بفكرة القنابل العنقودية المحرم استخدامها، طويلة المفعول واسعة الانتشار شديدة الفتك.
تعرَّضنا مثل غيرنا من الشعوب لموجات عولمة، الواحدة في ذيل الأخرى. فرحنا بها وطالت السكرة. فجأة ومع مطلع القرن، أفقنا وأفاقت معنا كل الشعوب لنكتشف أننا أصبحنا على هويات بترتيب وأولويات تختلف عن تلك التي كنا عليها، ولنكتشف أننا وجدنا أنفسنا أطرافاً في علاقات اجتماعية أكثرها غير سوي أو منطقي. كنا في سابق الأيام نتوحد في مواجهة الصدمة أو الاعتداء، فجأة صرنا ننفرط وأحيانا كثيرة نتقاتل في مواجهة أدنى تهديد وأقل إساءة. فجأة أيضاً حل الشره والغش محل الاستحقاق والشرف. عرفنا في ما بعد أن العولمة مسؤولة عن الهجمات المتوحشة التي شنتها قوى دينية متطرفة وعن الدعوات الانفصالية الصادرة عن عديد الجماعات العرقية وعن الزيادة في وتيرة الاحتكاكات المذهبية والطائفية.

لم يكن غائباً عن الأذهان أن العولمة صناعة غربية وأنها أضرت بمجتمعات بأكثر مما نفعت، لم تنج من ضررها دول في الغرب ومنها الولايات المتحدة. يزعم المرشح ترامب أن أميركا ضحية من ضحايا العولمة، وأنها بانحدارها في سلم الأمم تدفع ثمن انسياقها في تيارات العولمة أو قيادتها لها. أتفق معه. فالحديث الدائر في أميركا عن ضرورات ومزايا بناء جدار على الحدود مع كندا وجدار على الحدود مع المكسيك دليل قوي على صدق مزاعم ترامب.

أتفق معه لأننا في أقل من أربعين عاماً استقبلت شعوبنا بالترحاب والتفاؤل موجات عولمة اكتسحت حدوداً عديدة وأسقطت جدراً مشيدة. ثم استقبلت موجات عولمة أخرى أقامت حدوداً حيث لم توجد حدود وشيدت أسواراً حيث لم توجد أسوار. كرهت الشعوب العولمة وراحت تحمّل الغرب صانعها مسؤولية ما يجرى من انفراط وفوضى وظلم اجتماعي ومشاعر عنصرية.

لم يعد للغرب جيوسياسياً المركز الذي تمتع به على امتداد القرون الحديثة. إذ شهدنا خلال سنوات قليلة، فترة سلام عالمي لم تشهد لها مثيلاً شعوب أوروبا وشرق آسيا. حدث أن تدهورت مكانة أوروبا والولايات المتحدة كقيادة للديموقراطية في وقت احتاجت إليها ثورات «الربيع» وقوى الديموقراطية، في الوقت نفسه الذي صعدت فيه القوى اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء العالم. حدث أيضاً أن تفاجأ العالم بظهور دونالد ترامب، النقيض المطلق للديموقراطية الليبرالية الغربية ورسالة الغرب الحضارية، ظهر مطالباً بعرش الديموقراطية. حدث كذلك أن الغرب بحلفه «الأطلسي» واتحاده الأوروبي فشل في حماية أوكرانيا من خطط روسيا التوسعية. حدث أن كوريا الشمالية دشنت تجربة نووية جديدة في تحد صارخ لأميركا والغرب واليابان. حدث أن اتسعت المساحات الخاضعة للإرهاب وامتدت أياديه تنشر الدمار في اٌقاليم عديدة وعدد من عواصم الغرب، ولم يقع حتى لحظة كتابة هذه السطور ما يثبت أن الغرب قادر على تحقيق نصر عاجل ومناسب على قوى الإرهاب. حدث أن ألوفاً، وربما ملايين من العرب والأفارقة والآسيويين، زحفوا حتى وصلوا إلى أقصى مشارف الغرب من دون إطلاق طلقة رصاص واحدة. بمعنى آخر ظهر الغرب أمام شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا ووسط آسيا ضعيفاً ومنفرطاً ومفتقراً إلى قيادة قوية تستطيع وقف زحف أهل الجنوب للعيش في معاقل الشمال.

وبالنسبة لعرب عديدين فقد سقطت مكانة الغرب كقوة تحتل مركزاً جيوسياسياً لم تسبقه إلى مثله قوة أخرى في التاريخ المعاصر، سقطت عندما فشل في استثمار موجات «الربيع العربي» لمصلحته ومصلحة الديموقراطية ولفائدة السلام العالمي. خاب خيبة عظمى وسقط سقوطاً مدوياً في نظر الجماهير في مختلف المدن العربية الثائرة والمتأهبة للثورة على حد سواء. الغرب القائد للديموقراطية ورافع راياتها وحامل رسالتها لم يكن على مستوى لحظة تاريخية، كان يمكن لو توفر له الفهم السليم والقيادة الحكيمة والهيمنة العادلة والذكية أن يحقق من خلالها تحرير شعوب طال قهرها، والانتقال معها إلى عصر جديد من الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. من وجهة نظرنا كانت ثورات «الربيع العربي» محكاً لاختبار صلابة الغرب في الدفاع عن الديموقراطية وسقط في الاختبار. سقط الغرب ضحية ثورات «الربيع العربي» ولم ينهض بعد.
أي أمل يرجى في غرب ينحدر باضطراد.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة